استمع إلى الملخص
- يستعرض الكتاب تعقيدات الترجمة كفعل مقاومة ضد الهيمنة الثقافية، مستنداً إلى إرث فالتر بنيامين، ويبرز تجربة كوتزي في نشر روايته "البولندي" بالإسبانية.
- يناقش الكتاب قضايا لغوية وثقافية، مثل التحديات الأخلاقية في الترجمة، ويختتم بتأملات حول الأدباء الذين كتبوا بلغات غير مألوفة.
بالتزامن مع زيارة الكاتب الجنوب أفريقي ج. م. كوتزي إلى بلجيكا في الثالث عشر من الشهر المقبل، يصدر له عملان جديدان في اللغة الهولندية؛ الأول ترجمة أحدث وأكبر لكتابه "عالم وإسهامات إليزابيث كوستيلو"، بعدما أضاف إليه الكاتب نصوصاً أحدث، أما الكتاب الثاني فهو ترجمة لأحدث كتبه: "التحدث بألسنة، حول اللغات والترجمة"، والذي يقدم فيه كوتزي محاورته الطويلة والثرية مع مترجمته الأرجنتينية ماريانا ديموبولوس، التي نقلت عدداً من أعماله إلى اللغة الإسبانية.
في الزيارة نفسها، يتسلم الكاتب الحائز على نوبل، درجة الدكتوراه الفخرية التي مُنحت له مؤخراً من جامعة بروكسل الحرة الناطقة بالهولندية. وجاء في بيان الجامعة أن "هذه الدكتوراه تكريم لكاتب اعتاد تسليط الضوء على الأصوات والآداب المهمشة بوعي ثاقب، وإعلاء لقيمة التنوع اللغوي والترجمي الذي ساهم في تأسيسه".
ينطلق الحوار في كتاب "التحدث بألسنة، حول اللغات والترجمة"، الذي لم يزد عدد صفحاته عن 192 في نسخته الهولندية، من سؤال مركزي يلاحق المترجمين والكتّاب عبر العصور: "كيف يمكن تحرير المعنى المحبوس في نص مكتوب بلغة ما، ونقله إلى لغة أخرى دون أن يفقد جوهره"؟
لا يقدم كوتزي ومترجمته إجابة صريحة على هذا السؤال، لكنهما يغوصان في التعقيدات التي تجعل من هذه المهمة ضرباً من المستحيل أحياناً، فالكلمات، حتى أبسطها مثل "خبز" أو "أرنب" أو "قمر"، تتحول تحت مجهر التأمل اللغوي إلى ألغاز وجودية يصعب نقل روحها من لغة إلى أخرى، وذلك لأن الكلمات ليست مجرد أوان للمعانى فحسب، بل إنها في حد ذاتها عوالم كاملة تحمل في ثناياها تاريخاً ثقافياً واجتماعياً لا يمكن فصله عن دلالاتها.
يضع كوتزي ومترجمته إرث الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين، وخاصة مقاله الشهير "مهمة المترجم" (1923)، على طاولة بحثهما، وهو المقال الذي رسم فيه بنيامين، من علياء فلسفته، صورة مثالية للترجمة كمسار صوفي نحو "اللغة النقية"، تلك اللغة المثالية التي تجمع شتات اللغات كلها وتكشف عن "الحقيقة"، لكن كوتزي وديموبولوس ينزلان بهذه الفكرة من برجها العاجي إلى أرض الواقع، حيث الصراع الثقافي والسياسي والهوياتي، ليكتشفا أنهما يمارسان "مهمة الترجمة" ليس باعتبارها "تجربة تأملية" فحسب، بل "فعل مقاومة يومية ضد قوى التناسخ والنسيان والهيمنة".
وهنا تحديداً يُعرّف كوتزي على جانب آخر من حياته بوصفه "مغترباً لغوياً في موطنه"، على حد تعبيره، فقد نشأ تحت هيمنة ازدواجية لغوية في جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري، كانت الإنكليزية لغته الأم، وهي لغة الأقلية الحضرية المنفصلة عن لغة النظام (الأفريكان) والتي تتحدثها الأغلبية السوداء، يقول: "كثيرون مثلي وقعوا ضحايا الشِّركَين في وقت واحد، بين الأغلبية القومية من الأفريكان والأقلية الناطقة بالإنكليزية التي فقدت سلطتها المجتمعية فجأة". هذه الازدواجية جعلت من كوتزي كاتباً يشعر بالغربة حتى في لغته الأم، وهو ما ترد عليه ديموبولوس بقولها: "الكُتَّاب يعرفون هذا الشعور جيداً، لأن الكتابة، كما يُقال، هي تجربة استخدام لغتك الخاصة كما لو كانت لغة أجنبية".
الكتابة هي تجربة استخدام لغتك الخاصة كما لو كانت لغة أجنبية
رسّخ كوتزي اسمه بوصفه أحد أشهر الكتاب الذين يهتمون في أعمالهم برصد العزلة والاغتراب وتأثير العنف وقمع السلطة على الهشاشة الإنسانية والصراعات الأخلاقية، منذ روايته الأولى "بلاد الغسق" (1974)، وصولاً إلى كتابه الأخير هذا.
أما ماريانا ديموبولوس، فهي الشريك الفكري الذي لا يقل أهمية، فهي كاتبة ومترجمة أرجنتينية تعيش بين بوينس آيرس وبرلين، تمتلك حساسية لغوية فريدة، وبصفتها مترجمة أعمال كوتزي إلى الإسبانية، كانت المحاور المثالي له، حيث تلتقي خبرتها العملية الطويلة في الترجمة، مع التنظير الفلسفي والأدبي الذي يغرم به كوتزي في تحليلاته اللغوية.
لكن أهم ما يطرحه الكتاب كان الفصل المخصّص للحديث عن رواية "البولندي"، حيث قرر كوتزي تحدي الهيمنة الأنغلوسكسونية بنشر الرواية بالإسبانية أولاً، وجعل هذه الترجمة هي "النص المصدر" لأي ترجمة لاحقة، وليس النص الإنكليزي الأصلي كما هو معتاد. هذه الخطوة التي رآها البعض "احتقاراً من كوتزي للإنكليزية"، كانت أيضا احتجاجاً صارخاً من الكاتب ومترجمته على "الهيمنة المفرطة للإنكليزية في السوق الأدبي العالمي"، والتي تؤدي في النهاية إلى "درجة مذهلة من التجانس في الأسلوب بسبب الترجمات الآلية".
وبالرغم من هذه الجرأة، إلا أن التجربة فشلت عملياً، لأن الناشرين رفضوا التعامل مع النص الإنكليزي باعتباره "نسخة ثانوية"، أو "أقل قيمة" من الأصل الإسباني، وهو ما لم يدهش كوتزي في شيء، يقول: "كنت راغباً في فعل شيء ضد هيمنة الإنكليزية كلغة، ولكن أيضاً ضد اللغة القابلة للاستيعاب بسهولة، والتي نجدها اليوم في العديد من الكتب".
كتَب كوتزي روايته "البولندي" بلغة "غير مألوفة، وغير صحيحة، وركيكة"، وتفتقر إلى: "المتانة اللغوية التي تميز الإنكليزية الأدبية الراقية"، سواء من الناحية الدلالية أو الصوتية، كما يقول، ثم تأتي ترجمة ديموبولوس لتحول هذه الإنكليزية "المكسرة" إلى إسبانية "مفككة" بالقدر نفسه، لتكون النتيجة في النهاية أن الرواية نفسها، مثل شخصياتها، أصبحت في "لامكان لغوي"، وهي الفكرة التي تذكرنا باستعارة فالتر بنيامين عن الترجمة التي تخلق "صدى" للغة الأصل في اللغة الهدف المترجم إليها.
يناقش الكتاب بإسهاب قضية "اللغة الأمومية" مقابل "اللغة الأبوية"، حيث الأولى لغة البيت والعاطفة، والثانية لغة المدرسة والعالم والعمل والسلطة، يدقق كوتزي أكثر في هذه الثنائية، مشيراً إلى أن آلاف الكتّاب، خاصة في عالم ما بعد الاستعمار، لديهم "لغة أمومية" تعلموها على حجر أمهاتهم، و"لغة أبوية" تم اكتسابها في المدرسة، وهي التي يكتبون بها، ثم يتساءل: "ما هو شعورك حين تكون لغتك الأم هي الغواراني، ولكنك تكسب رزقك بالقراءة والكتابة بالبرتغالية؟ ما هو شعورك حين تكون لغتك الأم هي الزولو، لكن لكي تكسب رزقك يجب أن تمتلك مهارات القراءة والكتابة بالإنكليزية"؟
هل يحق للمترجم "تصحيح" لغة عنصرية في النص الأصلي؟
لا يغفل الحوار عن الإشكاليات الأخلاقية للترجمة، فأمام سؤال: هل يحق للمترجم "تصحيح" لغة عنصرية أو معادية للسامية في النص الأصلي؟ تقدم ماريانا ديموبولوس مثالاً واقعياً: أول مترجمة ألمانية ليوميات أنّا فرانك بعد الحرب العالمية الثانية، "خفَّفت كثيراً" من حدّة عباراتها المعادية للألمان، وبينما ترى ديموبولوس أن هذا كان "خطأ مهنياً"، يرى كوتزي أن المترجمة ربما أرادت أن تكون "وسيطاً ثقافياً" في حقبة كانت تحتاج إلى "رسائل مصالحة لا رسائل عداء".
ينتقل الحوار أيضاً إلى قضية الجندر في اللغة، وكيف تختلف اللغات في تعاملها مع التذكير والتأنيث، ويقدم كوتزي وديموبولوس مثالاً عملياً صعباً: كيف تترجم المسافة الاجتماعية المتأصلة في تمايز "tú" و "usted"في الإسبانية إلى الإنكليزية التي تذوب فيها هذه الفروق الدقيقة في كلمة "you" المحايدة ظاهرياً؟ هذه ليست مشكلة تقنية فحسب، بل "انعكاس لرؤى عالمية مختلفة تتجسد في البنى اللغوية".
يختتم الكتاب بتأملات حول عظمة بعض الأدباء الذين كتبوا بلغات "غريبة" حتى عن أنفسهم، كافكا مثلاً كانت ألمانيته "حسب المعايير التقليدية، ليست جيدة بما فيه الكفاية"، وبروست الذي سعى إلى "تحويل لغته بطريقة تولد منها لغة جديدة تماماً"، وثربانتس ودوستويفسكي اللذان "يكتبان، في نظر الكثيرين، بطريقة متوسطة ومهلهلة نحوياً". هؤلاء لم "يسكنوا" لغتهم الأم فحسب، بل سكنوا "نسخة غريبة من تلك اللغة"، وهذا بالضبط ما جعلهم عظماء.
* شاعر ومترجم مصري مقيم في بلجيكا