التباس لغة النخبة

التباس لغة النخبة

05 يونيو 2021
سيدات فلسطينيات في طريقهن إلى المسجد الأقصى، كانون الثاني/ يناير 1969 (Getty)
+ الخط -

كثيراً ما استُخدمَت قصيدة "لا تصالح" للشاعر أمل دنقل (1940-1983) الاستخدام القديم للشعر، كأنّ من يردّدها يُؤازر الآخرين المتواجدين في المعركة، أو يُخاطب ضمائرهم كي لا تَهون، ونفسه كي لا يَغلبها الضعف.

تُمثّل قصيدة الشاعر المصري سردية مناقضة لسردية الأنظمة، وهي قصيدة مجالها الشعر، لا السياسة. إذ يرفض دنقل التسوية حتى بالدم، بذلك فهي نداءٌ لا يملك ما يجمعهُ بأي خطاب رسمي. إنّها نداءٌ يفوق الثأر حتى، وتبدو القصيدة بنداءاتها المطلقة، تذكيراً بالجريمة، وتأكيداً على عدم المساومة عليها. وقد كتب دنقل قصيدتهُ في تشرين الثاني/ نوفمبر 1976 استعادةً لحرب البسوس ومقتل الملك كُليب، قبل ذهاب السادات إلى القدس المحتلة (في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977) بعامٍ كامل. بالتالي، لم يكتب دنقل قصيدتهُ بناءً على حادثة "زيارة" السادات إلى القدس. لكن على الرغم من ذلك، فقد ارتبطت في ذاكرة العرب بتلك "الزيارة"، وبمجمل سياسات السادات الذي مضى إلى "الصلح" مع "إسرائيل".

يمكن القول إذاً بأنّ قصيدة دنقل شعرٌ خارج منطق السياسة. لكن في الوقت نفسهِ يَرد فيها تساؤلٌ يُفضي إلى مفارقاتٍ عرفتها نخب سياسية وثقافية عربية، من أحزاب وأفراد في السنوات التي أعقبت الربيع العربي، والتساؤل في نص دنقل: "هل تتساوى يدٌ... سيفُها كان لك /بيدٍ سيفُها أثْكَلك؟". لقد دَرَجَ لدى نُخبةٍ لم تعد أقليّة عابرة استخدامُ مفرداتٍ، لطالما اُستخدِمَتْ ضدّ الاحتلال، في وصف الخصوم. خصوصاً مع خوضِ جيوش عربية معاركَ داخل بلدانها، وهذهِ استعارة خطيرة، سواء وافق عليها المرء أم لم يوافق. يستطيع أحدنا أن يقول عن نظامٍ بأنّه استبدادي وشمولي، وبأنّه سلطة أمر واقع. لكن لا يستطيع بالسهولة ذاتها القول أنّه احتلال، حتى لو كان وجوده يعمل مفاعيل الاحتلال ذاتها.

تكتسب الكلمات شرعيّتها من تعبيرها عن القضية التي تمثّلها

وبالمثل يستطيع أحدنا أن يقول عن نظام بأنّه متعامل مع الاحتلال، ومرتهن لسياسة الاحتلال أو ينفّذ سياساته. لكن لا يستطيع بالسهولة ذاتها أن يقول بأنّه أخطر من الاحتلال، فالاحتلال هو من يوظّفه. وليس بتلك السهولة أيضاً استخدام كلماتٍ في حروب أهلية، لطالما كانت تُستخدَم في وجهِ المحتل. ذلك على الرغم من أنّ الحروب الأهلية كافةً، تعرف في مرحلة من مراحلها تفضيلاً للأعداء التاريخيين لشعبٍ ما، على الشركاء المحليين. إنّ هذا الالتباس الذي تورّطت فيهِ أحزابٌ وأفراد إبان سنواتٍ دامية، قد خلط أوراقاً كثيرة، وساهم في جعل السلام متعذراً في المنطقة. إذ وعبر استخدام خطاب ضدّ الاحتلال في أدبيات سياسية محليّة، وعلى نحو يبدو فوضوياً، صار المحتل في مأمن ضمن فضاءٍ مُخاتِل. وصار وجوده مُشابهاً لوجود أنظمة المنطقة التي لا شكّ في أنّها أنهكت قوى البشر، وأزهقت أرواحهم، وحطمت آمال الناس بالبقاء.

لا تَتَغوّل الكلمات على الحقائق، سِوى لدى العقل الذي خرّبته الأيديولوجيا. ولا تكتسب الكلمات شرعيتها من كونها مجرد كلمات تُرمى على عواهنها، وإنّما من تعبيرها الصحيح عن القضية التي تمثلها. وفي النهاية، عندما تتنادى الشعوب إلى قضاياها، فإنّها تعرّي التباس لغةِ النخبة ما بين أنظمة شمولية وبين محتل.

بالنسبة إلى المكلوم فإنّ كلّ الأيدي سواء، ويد الموتِ واحدة. لكن بالنسبة إلى النخبة، من غير مفاضلة بين مستبدٍّ ومحتل، فإنّ لكلٍّ منهما قاموسه واستعاراته اللغوية. كما أنّ استخدام خطابٍ في غير مكانهِ، لا يُكسِبُ صاحبَ الخطاب جدارةَ الكلمات.  الكلمات في غير سياقها، تصبحُ من غير قوة، وخطابها من غير وظيفة. الكلمات في غير مكانها محضُ ضلالٍ ووهم، وعوض أن ترفع يدَ الموت عن القتلى، لربما تؤكّدها.


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون