"التاريخ الإجرامي للجنس البشري".. تبرير القتل وتقديسه بعين كولن ولسون
استمع إلى الملخص
- يتناول الكتاب الجريمة كجزء من تكوين بشري مشترك، ويطرح تساؤلات حول تأثير الحضارة الحديثة على معدلات الجريمة، مستعرضاً جرائم تُرتكب بلا دافع واضح.
- يثير الكتاب العلاقة بين الجريمة والفن، حيث تُلهم الجرائم الغامضة الأعمال الفنية، ويفتح نقاشاً حول العنف في السياق العربي وأقنعته الأيديولوجية والدينية.
ينطلق الكاتب البريطاني كولن ولسون من لحظة ما قبل التاريخ، حين لم يكن الإنسان يملك سوى قوته الجسدية وسلاحه الحجري. وهنا يؤسّس لفكرة أن القتل لم يكن آنذاك جريمة، بل ضرورة للبقاء، فالصراع على الطعام والمأوى والتكاثر دفع الإنسان البدائي إلى القتل ليس بدافع الحقد، بل بدافع النجاة، كما طرح كتابه "التاريخ الإجرامي للجنس البشري" الذي ظلّ يثير أسئلة مقلقة حول جذور العنف في النفس البشرية منذ صدوره عام 1984.
ومع صدوره في نسخة عربية عن المركز القومي للترجمة في مصر، يعاد طرح السؤال أمام القارئ: هل البشر كائنات مبرمجة على القتل؟ وهل الحضارة كانت تهذيباً لهذا الميل أم أنها مجرّد قناع خادع يخفي تحته شهوة الدم؟ الكتاب الذي ترجمه رفعت السيد علي يمثّل محاولة جريئة لإعادة فهم الإنسان نفسه، ليس من خلال منجزاته الفنية أو العلمية، بل من خلال جرائمه وأفعاله العنيفة.
لا يتناول الكاتب الجريمة بوصفها انحرافاً سلوكياً فردياً، بل بصفتها جزءاً من تكوين بشري مشترك، وجزءاً من تاريخ طويل يربط بين الغزاة والملوك والجنود والقتلة المتسلسلين، إذ لا يكتفي بالتفسير البيولوجي الذي بدأ به المؤلّف بحثه، بل ينتقل إلى تحليل أعقد، فيطرح ما يُشبه نظرية تطورية تقول إنّ الإنسان حين تطوّرت لديه القدرات العقلية، بدأت دوافع القتل تتعقد. لم يعد القتل من أجل الطعام فحسب، بل أصبح وسيلة للسيطرة، وبناء الهالة، وفرض الهيمنة، ثم لاحقاً، وسيلة للمتعة عند البعض.
في تسلسله التاريخي، لا يتبنى ولسون الخط الكلاسيكي الذي يسرد التاريخ بوصفه مسيرة تقدم حضاري، بل يرسم صورة مظلمة للسلطة والتاريخ على السواء، مع تكرّر أنماط العنف بوجوه مختلفة؛ من الحروب التوسعية للإمبراطوريات والممالك القديمة، إلى التعذيب والعرض الدموي كأنه وسيلة للترفيه، وصولاً إلى حروب القرن العشرين والمجازر الجماعية، ويتوقف عند محطات صادمة، مثل المذابح التي ارتُكبت أثناء الحروب الصليبية، أو القتل الجماعي الذي مارسه النازيون، ويتساءل: هل كان هؤلاء وحوشاً شاذين عن القاعدة؟ أم أنهم نتاج طبيعي لمنظومات اجتماعية تغذّي العنف وتغلفه بالشعارات؟
يطرح الكتاب سؤالاً حول العلاقة المعقدة بين الجريمة والفن
ينتقل صاحب كتاب "اللامنتمي" إلى العالم الحديث، إذ يعالج ظواهر الجريمة المعاصرة، خصوصاً في المجتمعات الغربية، راصداً تصاعد معدلات القتل، وانتشار القتلة المتسلسلين، والجرائم الجنسية المروعة، ويرى أن المجتمعات الحديثة، رغم التقدّم التكنولوجي والرفاهية، خلقت نوعاً من الفراغ الوجودي، جعل الإنسان يشعر بالعبث، وأضعف قدرته على التحكم في دوافعه المظلمة.
يستعرض الكتاب العديد من النماذج غير المألوفة في عالم الجريمة الفردية، تلك التي تُرتكب خارج سياقات الحروب والسلطة. وهنا، تُطرح القضية الأشد إزعاجاً، والمتمثلة في القتل بلا دافع. يستعرض الكاتب مجموعة من الحوادث العنيفة من هذا النوع، بينها مثلاً تلك الجريمة التي ارتكبتها الأميركية بني جوركلاند لتكون واحدة من أكثر الحوادث تعبيراً عن هذا النمط الغريب من الجرائم. ففي إحدى ليالي شتاء عام 1959 قبلت جوركلاند عرض رجل متزوج من كاليفورنيا لتوصيلها بسيارته، وبدون أي سبب أو إزعاج من الرجل، أخرجت مسدساً كان بحوزتها، وأطلقت عليه اثنتي عشرة رصاصة داخل السيارة. وبعد القبض عليها، صرّحت بأنها كانت تجرّب ما إذا كان بإمكانها أن تقتل أحداً دون أن تشعر بتأنيب ضمير. اللافت هنا أن الأطباء النفسيين وجدوا أنها كانت عاقلة تماماً وتعي ما تفعل.
هذه الحادثة، كما يراها ولسون، تجسيد مخيف لتحوّل القتل إلى اختبار وجودي لدى البعض، أو هو نوع من التجربة الذاتية لمعرفة حدود النفس البشرية في مواجهة الفعل النهائي، الذي يتمثل في القضاء على حياة إنسان آخر، ويعتقد أن القيم التقليدية، بغض النظر عن شدّتها، كانت تشكّل نوعاً من الضبط الداخلي، لكن مع تآكل هذه القيم، وبروز الفردانية المتطرفة، تحرّرت الأهواء، وأصبح العنف منفذاً للغضب والتهميش والاغتراب.
يجمع الكتاب بين التأمل الفلسفي والتحليل النفسي، فهو لا يسرد الوقائع فحسب، بل يحاول دائماً أن يفسر الأسباب التي تدفع الإنسان إلى القتل وارتكاب العنف، وهل يمكن تفكيك هذه الآلية الإجرامية داخل الإنسان؟ وتستحضر فصول الكتاب تجارب علماء نفس، مثل فرويد ويونغ، وكذلك كتابات وجوديين مثل سارتر وكامو، ليصل إلى نتيجة مؤرّقة، وهي أن الإنسان، رغم تطوره الظاهري، لا يزال يحمل في داخله ظلال الوحش القديم. وإن لم يواجه تلك الظلال ويعيها، فإنها ستتحكم في سلوكه وتُعيد التاريخ للوراء.
مع تطوّر قدرات الإنسان العقلية، تعقدت دوافع القتل
بعيداً عن التوثيق والتحليل، يثير الكتاب أيضاً على نحو غير مباشر سؤالاً حول العلاقة المعقدة بين الجريمة والفن. ففي تاريخ الثقافة الإنسانية، لم يكن الفن بمنأى عن استحضار الجريمة، سواء بوصفها فعلاً مداناً أو مادةً روائية وسينمائية تُغذي الخيال. جرائم القتل، لا سيّما تلك التي تحمل طابعاً غامضاً أو لا دافع لها، أصبحت مصدر إلهام لعدد لا يُحصى من الأفلام والروايات واللوحات والمسرحيات. من هنا يمكن قراءة طرح ولسون على ضوء هذا الانفتاح، إذ لا يكتفي بإدانة الجريمة أو تفكيك دوافعها، بل يضعها في سياق أوسع، تتداخل فيه الأسطورة بالواقع، والمرض النفسي بالإبداع الفني، والخوف بالافتتان. هل يمكن أن يكون جزءٌ من هذا الاهتمام مردُّه إلى حاجة الإنسان لفهم المجهول أم أن هناك، كما يلمح الكتاب، نزوعاً خفياً إلى ترويض الوحش الداخلي عبر مراقبته من خلف ستار الحكاية أو العمل الفني؟ في كل الأحوال، يبدو أن الجريمة ليست فعلاً يُرتكب في الظلام فحسب، بل حالة إنسانية أيضاً تُعرض على خشبة المسرح وفي صالات العرض، ربما لنختبر بها هشاشتنا وخوفنا وإدراكنا للعدالة. ولعل قوة الكتاب تكمن في قدرته على إبراز هذه المنطقة الرمادية التي لا تتسع لها القوانين، ولا تُفسرها أخبار الجريمة، لكنها تملأ وجداننا وتسكن في ضمير الحضارة، سواء شئنا أم أبينا.
من اللافت في قراءة الكتاب من موقعنا العربي، أنه يُفجّر أسئلة موازية حول علاقتنا بالجريمة والعنف في السياق المحلي. فبينما يركّز المؤلف على تجارب الغرب، من العصور الحجرية حتّى جرائم القتل في أميركا المعاصرة، تظل صفحات التاريخ الإجرامي في منطقتنا أقل ظهوراً، وربما أقل اعترافاً كذلك. هل يعود ذلك إلى اختلاف في بنية المجتمعات؟ أم أن السياق السياسي والاجتماعي العربي غالباً ما يُغلّف العنف بأقنعة أيديولوجية أو دينية تجعله يبدو مبرّراً أو مقدّساً؟ في عقودنا الأخيرة، شهدنا حروباً أهلية، وتنظيمات متطرفة، وقمعاً سياسياً أنتج أنماطاً من القتل الجماعي والاختفاء القسري، لكن نادراً ما يُنظر إلى هذه الأحداث بوصفها امتداداً لذاك التاريخ الإجرامي للإنسان. هناك نزعة لتمييع العنف، أو تأطيره داخل خطاب وطني أو ديني أو ثوري، بحيث يفقد طابعه الوحشي ويُعاد تدويره جزءاً من سردية مقبولة. قراءة الكتاب تتيح للذهن أن يفكر خارج الإطار، وأن يرى كيف يمكن للجريمة أن تكون مرآة لهشاشة الفرد والنظام على السواء. إنها دعوة، ولو مؤلمة، لنبش دفاترنا، ليس لجلد الذات، بل لإدراك مكامن العطب، ومحاولة فهم كيف يستنسخ العنف نفسه في وجوه مختلفة، من السلطة إلى الشارع، ومن البيت إلى الشاشة.
"التاريخ الإجرامي للبشرية" هو عمل جريء، ومزعج أحياناً، لكنّه ضروري لمن يريد أن يفهم طبيعة الإنسان بعيداً عن الأساطير المريحة. ولعلّ صدوره في نسخة جديدة بالعربية اليوم، في ظل عالم يموج بالعنف والصراعات، يأتي في توقيت مثالي ليفتح نقاشاً جاداً حول الجريمة والعنف الإنساني ودوافعه. قد لا نجد بين فصول الكتاب إجابات قاطعة بالطبع، لكنّنا نخرج بوعي أعمق، وربما بخوفٍ أشدّ من أنفسنا.
* كاتب من مصر