البحث عن الأساطير.. فيلسوف دمشقي في رحلته من الإسكندرية إلى أثينا

البحث عن الأساطير.. فيلسوف دمشقي في رحلته من الإسكندرية إلى أثينا

26 مارس 2022
روى داماسكيوس للعالم قصة هيباتيا وتعاليمها في الإسكندرية (Getty)
+ الخط -

قام الفيلسوف الدمشقي داماسكيوس في ثمانينيات القرن الخامس الميلادي بواحدة من أهم الرحلات المدونة في العصر البيزنطي، كونها الرحلة الوحيدة، ربما، التي تمت لأسباب لا تتعلق بالحج إلى الأراضي المقدسة، بل هرباً من الاضطهاد الذي أوقعته كنيسة الإسكندرية على الفلاسفة. وداماسكيوس هذا هو من روى للعالم قصة الفيلسوفة الإسكندرانية هيباتيا التي قضت قتيلة بسبب أفكارها، وعنه أخذ جميع من تناولوا قضيتها المأساوية.

وُلد داماسكيوس في دمشق، واكتسب اسمه منها. درس الخطابة في مدينته قبل أن ينتقل وهو في العشرين، مع شقيقه الأصغر جوليان، إلى الإسكندرية، ليستكملا دراستهما على يد ثيون السكندري، وذلك في بداية ثمانينيات القرن الخامس الميلادي، ما يضع تاريخ ميلاده حوالي العام 458 م. ويرى كثير من الدارسين أن "داماسكيوس" قد حمل في طبعه وحياته الكثير من طباع مدينته الغنية والمعقدة في آن معاً، فقد كانت دمشق في وقته سبيكة ثمينة انصهرت فيها ثقافتا الأنباط واليونانيين.

تتلمذ داماسكيوس وشقيقه جوليان في مجال الخطابة على يد سيفيرانوس الدمشقي وغيره في دمشق، ثم استكمل دراسته في "أكاديمية هورابوللو" في الإسكندرية؛ الأمر الذي يعطي انطباعاً بأنه ينحدر من أسرة ميسورة الحال، فهي الأكاديمية التي كانت تجمع كبار الأساتذة والخطباء والفلاسفة، ليدرِّسوا جمهوراً مختلطاً من التلاميذ لجهة العقائد الدينية، بين وثني ومسيحي، القادمين من مختلف أنحاء حوض البحر المتوسط. ونظراً لتميزه، تم تكليفه بعد وصوله إلى الإسكندرية بفترة ليست ببعيدة بأن يقدم خطبة تأبين السيدة آيديسيا الدمشقية، أرملة الفيلسوف العظيم هيرمياس، وهي مهمة لا يكلف بها إلا كبار الخطباء والمتحدثين.

كان داماسكيوس شاهد عيان على تصاعد الصراع الفكري في المجتمع الإسكندري، حيث انتقلت الحوارات الفكرية والجدالات الفلسفية إلى داخل جدران "أكاديمية هورابوللو"، واحتدمت النقاشات بين التلاميذ أتباع الفلسفات الفيثاغورثية والأفلاطونية من جهة، والمسيحيين من جهة أخرى، وتصاعدت حدتها ولهجتها واستمرت عدة أيام، وامتدت من التلاميذ إلى أساتذتهم وأحياناً معارفهم وأقاربهم، ثم اندلعت أعمال عنف شديدة بين الطرفين، أعقبتها حملة اعتقالات واضطهاد وتقصّ وتعذيب لكبار الفلاسفة وتلاميذهم، فهرب بعضهم خارج الإسكندرية مثل إسكليبيودوتس الذي ذهب إلى أفروديسياس، وتوارى بعضهم عن الأنظار مثل إيزيدور الذي اختبأ في منزل داماسكيوس. لكن الظروف العصيبة استمرت فترة طويلة، الأمر الذي دفع داماسكيوس لأن يرافق الفيلسوف إيزيدور من الإسكندرية في رحلة برية إلى أثينا عام 489 م عبر فلسطين وسورية وفينيقيا.

الصورة
داماسكيوس
داماسكيوس (greatestgreeks)

ومن المعتقد أن داماسكيوس عاد إلى الإسكندرية وكرس نفسه للكتابة هناك، وعندما تقدمت به السن، أبى إلا أن يحط الرحال في سورية أرض أجداده، حيث توفي في مدينته دمشق.


من غزة إلى بصرى

تركز رحلة داماسكيوس على الرجال أكثر من تركيزها على الأمكنة، فحين دخل غزة قادماً إليها من الإسكندرية عبر الطريق الساحلي، شمالي سيناء، تحدث عن أحد فلاسفتها ويدعى أنطوني الذي عمل في سلك القضاء، ووصفه بأنه صاحب طبيعتين "عمومية، وغامضة، فجعل من غزة مكاناً أكثر قدسية عما كانت عليه من قبل".

وبعد ذلك، يحدثنا عن فيلسوف آخر اسمه دوروس العربي استضافه مع أستاذه إيزيدور في بصرى، وقد وصفه بقوله: "كان ساعياً حثيثاً خلف الحقيقة، وقد أدرك الفيلسوف إيزيدور أنه كان منغمساً منذ البداية في فرضيات أرسطو حيث إنها تمثل أساسيات تعليمه منذ الطفولة، وكونه غير مطلع على حكمة أفلاطون الواسعة، لم يكن قادراً بمرور الوقت على السمو بفكره إلى مستوى المفاهيم النيرة. عندما لاحظ إيزيدور هذا، بدأ بجره تدريجياً، وإعداد روحه لمخر عباب بحر الحقيقة الشاسع، فحرر دوروس نفسه من دقة المشائين المفرطة، والتي تركز على إثبات نقاط محددة، وتحول إلى فن الجدليات".

وحول مدينة بصرى قال: "رحلنا إلى بصرى في بلاد العرب، وهي ليست بالبلدة القديمة، حيث إنها حصلت على مرتبة المدينة تحت حكم الإمبراطور سيفيروس، ولكنها تحوي قلعة قديمة حصنها الملوك العرب ضد جيرانهم في مدينة ديونيسياس (السويداء)". وهي إشارة إلى أن قلعة بصرى من بناء الملوك الأنباط.


وادي اليرموك

ويضيف واصفاً شلالات زيزون، التي يسميها "مياه الستايكس العربي"، بقوله: "مياه الستايكس العربي تنهمر نزولاً، ويقال إن مياهها منسوبة أيضاً لنهر الستايكس، وهو اسم نهر يفصل بين الأرض والعالم السفلي. المنطقة التي يقبع فيها هذا النهر هي سهل في أراض عربية يمتد من الشرق وصولاً إلى بلدة ديا (ديون)، ثم تنفلق الأرض فجأة إلى فج عميق مغطى بطبقة سميكة من الصخور على حافتيه، وبنباتات برية تنمو على الصخور، على الجهة اليسرى منه يكون المنحدر ضيقاً وقاسياً، فهو، بالإضافة لكونه حجرياً، سميك مكسو بنباتات برية وغريبة، وهو يمتد على طول خمسين شوطاً (حوالي 9 كم)، ورغم ذلك يقطعه الرجال وحتى النساء اللائقات بدنياً، ويوجد في قعر الوادي جدول يستمر مع مجراه، وثمة حدائق، والكثير من المزارع".

وينقل لنا داماسكيوس طقساً مهماً من طقوس التضحية في هذا الوادي حيث يقول: "في نهاية الصدع البعيد والضيق ثمة خزان دائري الشكل لمياه الستايكس وهي تنهمر، وهذه المياه تنهمر في الهواء وتتناثر نتيجة وقوعها من ارتفاع شاهق وتعود لتتجمع. هذا المشهد وهذه الظاهرة الطبيعية تجمع بين التأثير والرهبة. لم يشاهدها أحد إلا وملأته الرهبة الدينية. من بين القرابين التي ترمى في الهاوية ما يغرق، حتى لو كان خفيف الوزن، وذلك عندما تكون الطقوس مقبولة، ومنها ما يطفو حتى لو كان ثقيلاً فتلفظه المياه بشكل فائق للمعتاد. ويعلم سكان المنطقة المحليون من خلال الخبرة أن يوفوا القسَم الذي يقطع في هذا المكان وهذه المياه، لذلك لا يقسمون به إلا نادراً. ويقال إنه إن حنث أحد بقَسَمِه هذا فسوف يدمر خلال عام، فتغزو جسده وذمات الاستسقاء، فلا أحد نجا من عقابه".


دمشق والمقدرات الخارقة... وبيروت وإلهها أشمون

ينطلق الفيلسوف داماسكيوس وأستاذه إزيدور من بصرى باتجاه دمشق، وهناك يقيمان فترة شبه متخفيين خشية القبض عليهما من جانب البيزنطيين بتهمة وثنيتهما، ويحاول فيلسوفنا أن يفسر اسم دمشق بطريقة مختلفة، حيث يربطها بالأنباط وإلههم ذي الشرى، وفي ذلك يقول "يدعو الأنباط ديونيسيوس بذي الشرى. انتصر ديونيسيوس على ليكورغوس (شيع القوم) وأتباعه العرب من خلال رش جيش العدو بالنبيذ من الزقّ الجلدي. ولهذا فقد دعا المدينة باسم (داماسكيوس) دمشق. البعض الآخر يشتق اسم المدينة من اسم عملاق اسمه آسكوس والذي غلبه زيوس هنا، في حين يفسر البعض الآخر الاسم بطرق غير ذلك". ويبدو أن داماسكيوس كان يجيد النبطية، فقد فسر اسم مدينته من منطلق العارف باللغة حيث أن كلمة دما تعني بالنبطية الإخضاع، وزقا تعني زق الخمر. ويشير إلى أن "السوريين، وخاصة أولئك الذين يسكنون دمشق، يدعون الأطفال، وحتى الفتيان الأكبر عمراً، بلفظة "ببيّا"، على اسم بابيا وهي إلهة يعبدونها".

ويخبرنا فيلسوفنا عن عدد من الشخصيات التي كانت تملك مقدرات خارقة في زمنه: " كان سالوستيوس قادراً على التنبؤ بالموت العنيف لكل شخص بمجرد النظر إلى عينيه، ولم يكن قادراً على تفسير منشأ هذه المعرفة، ولكنه كان يحاول التفسير من خلال سواد وضبابية العين وفرط الرطوبة فيها، تماماً كما يتجمع في بؤبؤ العين في لحظات الشدة المهولة، كما كان يقول إن شخصاً اسمه يورانيوس من أفاميا السورية، وهو محافظ قيصرية فلسطين، يستطيع تمييز السحرة الملعونين بنفس الطريقة من العين، وثمة شخص اسمه نوموس (نعمو) من نفس بلدي (دمشق) كان قادراً على كشف الجرائم المخفية بمجرد النظر في عيون الناس الذين يقابلهم".

ويخبرنا داماسكيوس بأن الفترة التي لازم فيها معلمه إيزيدور، ليلاً ونهاراً، من يوم مغادرتهما الإسكندرية إلى مغادرتهما دمشق، استمرت ثمانية أشهر، حيث انطلقا من دمشق إلى حمص. وقد استغلا وجودهما في حمص لزيارة بعض المزارات الدينية التي يقدسها الوثنيون، ومنها أبنية تسمى البيت إيل. ويخبرنا داماسكيوس أن شخصاً حمصياً يسمى يوسيبيوس أنشأ حركة دينية اسمها الحركة البيتيلية، كان يحمل بيديه حجراً مقدساً ينطوي، بحسب رأيه على أعاجيب. وربما لهذه الجماعة علاقة بديانة الحمصيين القدماء وحجرهم المقدس قبل أن تسود الديانة المسيحية المدينة.

من حمص، قصد داماسكيوس مدينة بيروت على ساحل فينيقيا، وبحكم اهتمام أستاذه إيزيدور بالأساطير، نقل له قصة الإله الفينيقي أشمون، والتي يبدو أنه سمعها من أحد الكهنة باللغة الفينيقية، ولذلك يقول إنه ترجمها لأستاذه، والقصة هي ولادة الولد الثامن لأبي الآلهة الذي يسمى أشمون، ويسمى باليونانية أسكولابيوس، و"على اعتباره كان شاباً شديد الجمال، بهي الطلعة، وقعت في حبه، وفق الأسطورة، الإلهة الفينيقية أسترونوي (عشترونة)، وهي أم الآلهة. وكان يصطاد كما هي عادة أبناء شعبه في الوديان عندما لمح الإلهة تطارده، وفيما تابعت مطاردته وكادت تمسك به، وقع في حالة من الجنون فقطع اعضاءه التناسلية بنفسه بفأس، فحزنت الإلهة لما وقع به حزناً شديداً واستدعت بايان (الطبيب الإلهي) ، وقامت بإحياء شبابه من خلال محبتها العارمة الدافئة، فصنعت منه إلهاً يدعوه الفينيقيون بـ"إيشمون" تيمناً بدفء الحياة، ولكن آخرين يفسرون الاسم "إيشمون" على أنه "الثامن" لأنه كان الابن الثامن لكبير الآلهة الصادق".


أثينا واحتقار الفلاسفة

بعد بيروت، يتوجه داماسكيوس (الصورة) وأستاذه إلى جزيرة ساموس اليونانية، ويبدو أن أستاذه قد مرض في هذه المرحلة من الرحلة بالاستسقاء، إذ تورم جسده وهم على ظهر السفينة، وعندما يصلان إلى أثينا يتفاجآن بأن عاصمة الفلسفة في العالم باتت تحتقر الفلاسفة.

يقول داماسكيوس: "لم نسمع قط باحتقار للفلسفة على أرض اليونان؛ كما احتقرت في زمان هيغياس". وهيغياس هذا ينحدر من عائلة مشهورة فلسفياً وقوية سياسياً، وجرى تعليمه من قبل بروقليوس في مجال الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، وهو قد احتل الكرسي الأفلاطوني في تسعينيات القرن الخامس. ويبدو أن هيغياس قد أصبح حاكماً وشرع بمعاملة الفلسفة باحتقار كرجل سياسة.

ويضيف داماسكيوس: "على الحاكم أن يبذل كل ما بوسعه لخدمة رعاياه. ولكن هيغياس كان يعتقد بأنه لا أولوية للرعايا على خدمته لنفسه أولاً، فالكل يسعى لما هو فيه نفعه قبل نفع الآخرين. في حين أن إيزيدور، في المقابل، يعتقد بأن الحاكم، باعتباره راعياً، مسؤول عن رعيته، ولهذا السبب فعلى رعيته إطاعته، أما إذا كان يسعى وراء رغباته بات حاله كحال الرعية. والحاكم، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا يحتاج شيئاً، آخذين بعين الاعتبار أنه إنسان له احتياجات". 


طبيب دمشقي في أثينا

في أثينا، يحدثنا داماسكيوس عن ابن مدينته دمشق الطبيب إياكوبوس (يعقوب) الذي أقام له اليونان تمثالاً في عاصمتهم، حيث يقول: "يعود أصل إياكوبوس الطبيب إلى مدينة دمشق وكان مكتملاً في علمه، كونه قد وصل إلى قمة الدقة ليس في التشخيص فحسب بل في العلاج أيضاً، حيث جمع بجد ومهارة بين المعرفة النظرية والخبرة، فحمل الجائزة الأولى في التميز الطبي من بين الأطباء المعاصرين، وكان يقارن بالأطباء القدماء، بل واعتبر متفوقاً عليهم. وقد كان واثقاً من نفسه ومن طرائقه لدرجة أنه إذا زار مريضاً وشخص له مرضاً كان يعرف فيما إذا كان سيعيش، فيتفائل من حوله بأنه سيتماثل للشفاء، أو أنه سيموت فيتوقع من حوله أنه سيموت. ولم يكذب أي من توقعاته. كان يقول إنه على الطبيب الكامل إما أن يفقد الأمل في علاج المرض، أو أن يقرر الاستمرار في العلاج فيحسن من وضع المريض الطبي، فلا يدعه إلا وهو في حال أكثر قبولاً، وإلا فعليه ألا يهجر مريضه ".

ويضيف: "كان إياكوبوس يقنع مرضاه الأغنياء بمساعدة شفاء المرضى الفقراء، ولم يكن يتلقى مالاً لعلاجهم، مكتفياً لنفسه براتبه البلدي. كان قلبه حنوناً ورقيقاً أكثر من كل أقرانه المعاصرين تجاه المحتاجين. رأيت تمثالاً لإياكوبوس في أثينا. لم يبد لي جميلاً جداً، ولكنه بدا نبيلاً وجليلاً. عندما سكن إياكوبوس أثينا وكان موضع احترام وتقدير، أملى على بروقليوس الذي كان مريضاً بأن يبتعد عن تناول الملفوف وأن يستعيض عنه بالخبيزة، ولكن بروقليوس لم يكن ليسمح لنفسه بتناول الخبيزة تبعاً لقانون فيثاغورس".

المساهمون