الاسم والمُسمَّى

الاسم والمُسمَّى

17 فبراير 2021
علّاقات بأسماء شخصية، في سوق خان الخليلي في القاهرة (Getty)
+ الخط -

أيّ القطبين يؤثّر في الثاني أكثر، الاسم أم المُسمّى؟ أوّل من أشار إلى حتمية تأثير الاسم على المُسمّى ـ أو الحتميّة الاسميّة ـ كان الشاعر الروماني بلوتوس. آنذاك، حذّر أفلاطون من الاستسلام إلى الحتمية الاسمية في المحاورات الواردة في كتاب "كراتيلوس"، وبالتحديد: من خطورة الحكم على طبيعة المُسمَّى من خلال معنى الاسم. يقول أحد المحاورين المؤيدين للنظرية الحتمية بأنّ الأسماء تمتح الحقيقة من الطبيعة، وبأنّ دلالتها، بالتالي، على طبيعة من يحملها لا شكّ فيها.

فكلمة "أوديب" في اللغة اللاتينية تعني "القدم المتورّمة"؛ وفعلاً، كان أوديب يعاني ممّا يُسمَّى طبّيّاً بحنف القدم الخلقيّ. المحاوِرُ الذي يتقمّص رأي أفلاطون يعترضُ بالقول إنّ الأسماء هي إطلاقاتٌ عشوائيَّة، وإنّ الاختيار الاعتباطي لا يولّد أي حقيقة طبيعية، وبالتالي، فإنّ اشتقاق أحكام عقلانية من الاعتباط لن يؤدّي إلّا إلى الظلم. الأسماء مجرّد اصطلاحات من البشر، وطاقة الاسم لا تشير على الإطلاق إلى طبيعة المُسمَّى.

ميشيل دي مونتين (1533 - 1592) يشير إلى الموضوع بشكل أبسط. لا يهمّ أيّ أنواع من الخضرة موجودة في الصحن؛ كلّ التمايزات بينها تُهمَل من خلال كلمة "سَلَطة". ولا تشير "سَلَطة" على الإطلاق إلى طبيعة الأشياء التي تمثّلها بشكل دقيق، بل تُعاني من التغيّر والارتباك. معنى الاسم لا يحسمُ طبيعة المُسمّى لأنّه يعاني من فجوةِ عدم الدقة، والحتميُّ هو فقط هذا التخبُّط والارتباط. الكاتب الفرنسي، الذي كان من بين الأكثر تأثيراً في عصر النهضة، كان ينقد تمسّك النبلاء بألقابهم، وخصوصاً الادّعاءات بأنّ الألقاب تحمل طاقة معنى "سحريّة" تؤثّر على من يملكها. دي مونتين تمادى في السخرية متسائلاً عن الحروف التي يجب أن تُكرَّم من ألقاب النبلاء. وطرَحَ السؤال الأكثر منطقية: إذا كانت هذه الطاقة السحرية المتعالية موجودة في الألقاب فعلاً، فهل ستشتغل وتفْعَل فعلها إذا ما اختارَ فلّاحٌ تسميةَ ابنه بلقبٍ نبيل؟

في المقابل، فإنّ عالم الاجتماعي الأميركي، ويليام إسحق توماس (1863 - 1947)، يدعو إلى ضرورة التروّي وعدم المبالغة في التقليل من أهميّة الأسماء. الأسماء تحمل طاقةَ معنىً بالتأكيد، وهي تحرّك كل افتراضاتنا المسبقة وأحكامنا الخفيّة حول الهوية الجسدية البيولوجية والمنشأ الاجتماعي والانتماء الطبقي والاعتناق المذهبي. خُذْ مثلاً: يحدث أن تكون الأسماء مشحونةً، أحياناً، برسائل أيديولوجية من الآباء؛ رسائل من المستحيل أن تمرّرها البيولوجيا الوراثيّة، كالآباء الشيوعيين الذين يسمّون أطفالهم كاسترو، أو الأب السوري الذي ورّط ولده برسالة أبديّة بتسميته حافظ الأسد. لا نستطيع أن نفصل، في ذهننا، بين الاسم والتصوّرات التي يثيرها.

تفصيلٌ يحيل إلى أسئلة الهويّة والمنشأ والانتماء

توماس يقول بأنَّ الأسماء تكون حاسمة في الصراعات الاجتماعية، وتلعب دوراً كبيراً في جرائم التطهير العرقي. في سورية مثلاً، اسمُ "عمر" يشير إلى انتماء طائفي، يختلف غالباً عن الانتماء الذي يشير إليه اسم "حيدر"، مع ضرورة تأكيد الاستثناءات. من المستحيل أن نبرِّئ أفكارَنا المسبقة من تأثير معاني الأسماء، وهذا التأثير حتمي. المحيط الاجتماعي الذي يعيشُ فيه المُسمَّى هو الذي يقرّر، أو لا يقرّر، اختصارَه بالاسم. 
لا نستطيع أن نحذف معاني الأسماء؛ هذا صحيح؛ ولكنّنا نستطيع أن نثبّطها ونعلّق العمل بها، لنُحرِّر المُسمَّى منها. كل نظرية توماس الاجتماعية تقوم على الفرضية التالية: "إذا قام البشر، بإرادتهم، باختيار معنىً ما وتحديده، فسيتحمّلون حتماً عواقب هذا التحديد". الإرادة الاجتماعية هي من تقرّر تأثير الاسم على المسمى.

عالم المنطق الأميركي ساول كريبكي (1940) يحوّل السؤال إلى إشكاليّة منطقيّة. لو افترضنا مثلاً أن كارل ماركس وقع على رأسه في الطفولة، وامتلك إصابة دائمة أوقفت قدراته الإدراكيّة. لو حصل هذا الأمر، فإنّ كل الأفكار المسبقة والتصوّرات الذهنية التي يثيرها اسم كارل ماركس، لن تدلّ على هذا الشخص! ومع أنّ الطفل المصاب لن يكون كاتب "رأس المال"، إلّا أنّه سيكبر ويبقى شخصاً اسمه كارل ماركس. 
كريبكي يقول إنّ التجربة البشريّة التاريخيّة هي التي تشحن الاسم بطاقة المعنى. ولأنّ فصل الاسم عن التجربة التاريخيّة سيولّد الارتباك الذي ولّده مثال ماركس، فإنَّ التجربة هي التي تولّد معنى الاسم، وليس العكس. الاسم جسدٌ والتجربة التاريخيّة روح، ولا يمكن فصل الروح عن الجسد. التجربة وحدها التي تُبارك اسماً ما وتجعله قابلاً للانتشار، مثل "محمد" و"عيسى"، أو تحنّط اسماً آخر وتجمّده في اللغة مثل "هتلر".

لسنا ضحايا أسمائنا... أسماؤنا ضحايانا.


* كاتب من سورية

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون