الأشباح

13 فبراير 2025
شاب فلسطيني يمشي وسط الدمار الذي سبّبته غارات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يعاني الكاتب من تحول الحياة في غزة إلى عالم شبحي بسبب نقص الموارد الأساسية، مما أدى إلى معاناة الناس من الفقر والجوع والمرض.
- يعيش الكاتب كلاجئ في بلجيكا، حيث يشعر بأنه شبح غير مرئي ويواجه صعوبة في التواصل مع عائلته في غزة، التي تعاني من الفقر وسوء التغذية.
- يعبر الكاتب عن حزنه على دمار غزة، مناشدًا الله لمساعدة أهلها، ويصف كيف أن الأشباح هناك تتمنى الموت للخلاص من معاناتهم.

قبل ثلاثين عاماً وعشرات ألوف الشهداء والمعتقلين، كنتُ في عمر الخامسة والثلاثين، ولَدَيّ خمسُ حواسٍّ جيّدة، و75 كيلوغراماً من اللحم والأنسجة والعضلات، تغطي الهيكل العظمي، ما أَهّلني تماماً لكتابة قصيدة عن الشبح، لأنّي آنذاك لم أكن أمتّ إليه بصلة

اليوم في مساء 7 كانون الثاني/ يناير 2025، ومع 200 ألف شهيد وجريح ومبتور الأطراف ومفقود، أرمل وأرملة ويتيم ومعتَقَل (زوج "مايا" اعتقلوه على الحاجز، وخرَجَ بعد 89 يوماً، شبحاً هو الآخَر، قليل الأكل ونادر الكلام). 

اليوم في مساءٍ كهذا، ومع خمسة في المئة فقط من نحو المليونين ونصف مليون (الذين هم أهلي وجيراني ومعارفي وأصدقائي)، ممن تبقّت لهم إمكانية العودة إلى بيوت أو أشباه بيوت، بعد مرور قنابل الـ"إم كيه - 84" ومتفجرات التفخيخ، على جميع العمران الحضري (طرق مسفلتة، بنوك، جامعات، مستشفيات، حدائق، مساجد وكنائس، مؤسسات مجتمع أهلي، ملاعب كرة القدم، حظائر الحيوانات المتواضعة)، ها أنا أُمسي شبحاً بحق وحقيق. 

وزني نزَلَ عشرين كيلوغراماً، وعمودي الفقري تقوّس من عبء الكتابة عن الإبادة، وثِقَلِ مرور الزمن في المنفى. 
صرت شبحاً بحق وحقيق، أنام أربع ساعات في النهار. لا أقرب أيّ كتاب، إنما أتابع الأحداث على مدار الساعة، وأبكي كلما رأيت مقطع فيديو عنهم. 

اليوم، أمسيت شبحاً غير مرئي حتى في شوارع أنتويرب النهارية، التي جئتها لاجئاً، على أمل الحصول على "بقايا مستقبل". شبحٌ يعرف كيف يخاطب الأشباح في غزّة، فلي تحت سمائها الأولى عائلةٌ كبيرة من الأشباح: شبحان هما ابنتَيّ "مي" و"مايا"، متزوجتان، ولهما 6 طفلات جميلات، ولهذا منعت عني بلجيكا "العَشَم" في "لمّ الشِّمْل". 

نادراً ما أُكلّمهما، لأن الإنترنت غير متوفر. وهما تخبرانني بآخر أخبارهما، إن حدثتْ معجزة ولَقَطَ الخَطُّ دقيقةً أو اثنتين، ثم ينقطع الإرسال. 

كلّ عالمي بغزّة تحوّل إلى عالم شبحي مُؤنّث ومُذكّر

أمس قالتا لي، حيث جمعتهما خيمةٌ واحدة في مواصي خانيونس، إنّ الصغيرات يطلبن "رزّ بحليب" (الحلوى الشعبية، المحبوبة عند أهل القطاع وكل بلاد الشام)، وأنّ كيلو السكر يُباع على بسطات الأسواق بـ42 دولاراً، ولا مال لديهما، كما لا عبوات حليب في المدينة، تماماً كما هو الحال في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا. 

بكتَا لأن البنات تحوّلن أشباحاً، وقد أُصِبنَ بفقر الدم الحاد، فما إن تقوم الواحدة منهن لأمرٍ ما، حتى تدوخ وتقع من الهُزال.
 
"مي" و"مايا" هما أيضاً تحوّلتا أشباحاً، وأخواتي الثلاث (ربّتا بيت)، قُتلتا في الحرب بدم بارد، وتحت القصف، فلم تنجُ إلا الثالثة الصغرى معلّمة المدرسة، إذ فقدت هي الأخرى اليد التي تحمل "الطباشير"، ولم يبقَ لها إلّا ركام البيت كلّه. 

وهكذا هُنّ الأخريات تحوّلنَ أشباحاً، إذاً. الحق أنّ كلّ عالمي بغزة تحوّل إلى عالم شبحي مُؤنّث ومُذكّر. 52 سنة عشتها هناك صارت تروغ من الإمساك باليدِ، كأنّها صابونة برغوة. (بالمناسبة: لا يوجد صابون ولا أي نوع من الشامبو لدى كلّ الناس منذ 10 أشهر). 

لهذا أنا هذه المرّة شبح بالفعل، مثلما هم أهلي أشباح بالفعل، ومثلما هي بيوتهم أنقاض أشباح بالفعل، بعيداً عن المجاز والاستعارة: بعيداً عن التورية، بعيداً عن ألاعيب اللغة: شبح بوزن 50 كيلوغراماً ومريض بالسكر، قرحة المعدة، ارتفاع الكوليسترول، وبدفعة واحدة من الخيال، كما يُخيّل إليّ في لحظة الحِبْرِ هذه، يمكن أن أكسر قانون الجاذبية، فأطير تحت سماوات فلاندرز الخفيضة. 

شبح، شبح، شبح ... كما 2 مليون و400 ألف شبح، نقصوا مئتي ألف من قَتْلٍ أو عَطَب، فهبني يا إله الجحيم، خصيصة كل الأشباح: ألا أكون موجوداً في هذا الكوكب. 

أهلي يتمنّون الموت هناك، فلماذا لا أتمنّاه هنا؟ ما تبقّى من شعبٍ من الأشباح هناك، يتمنّى الموت، فلماذا لا يتمنّاه شبحُهم المغترب؟ 

أرجوك أن تساعدهم يا إلهي، أنت كُلِّيِّ القدرة، كما يليق بإلهٍ عموديٍّ، أن ترمي لقمة لطفلٍ، على سبيل المثال، تحوّل شبحاً بدورِهِ، يبحث عن كفاف يومه وكفاف العيلة؟ وذلك العجوز الذي يراقب الطعام إذ ينزل- عن بُعد ـ بالمظلات من الطائرات، بحسرةِ من فَقَدَ الثقة بالجسد، مَن له سواك الآن يا إلهي؟ 

الثالث وهو آخر الناجين من أشباح عائلته الممتدّة (لصدفةٍ ما غير مفهومة)، يستغيث مُنادياً: "أنا هنا، هنا، تحت أنقاض بيت الجيران. إلحقوني، مخنوق نفَسي، دخليكم، أحتاج إلى نجدة، أُكسجين يا عالَم"، ثم يخفت صوته ويتلاشى؟ 

يا رب وقد شبقت ذلك الشبح في المستشفى، لفتاة في آخر سنة من دراسة الطب، محتاجة إلى نقل دم عاجل، ولا دم في بنك الدم، بينما حولها دمٌ غزير مسفوح على بلاط الغُرَف والممرّات وفوق فَرْشَات الأَسرّة، وأنينُ أشباح مثلها، يلوبون على الحافة، ما بين أول الميتافيزياء وأواخر الفيزياء. 

يا رب وقد شبقت ذلك الشبح لجامعية جميلة، اضطُر عَمُّها الطبيب، إلى قصّ قدِمها من فوق الركبة، بسكين المطبخ، وكلاهما محاصر بالقصف في بيت نصف مهدّم.

لا ما شبقتهم". لا ما شبقت الشبح في مُفْتَتَحِ الطفولة، يهرب من عسف الصواريخ ويرى الأطفال القتلى، بين قدميه، أشلاءً، تحت أمواج من الغبار الأبيض، فلا يفهم، ولا يبغم بحرف إلا بعد 74 يوماً.

لا ما شبقت ذلك الشبح الشاب لسيدة حامل، تذهب إلى الشاطئ وتتمشى قليلاً تحت رعب مسيّرات "كواد كابتر" الرشّاشة، (كما أمرها الطبيب في حمْل سابق)، فتصاب بطلقة في الكبد. 

يقول مثلنا: "الصديق وقت الضيق"، فيا رب ساعد أحفادَ المصلوبِ على خشبة.

كيف تفعل أشباحُ نسائنا الصابرات وهُنَّ بلا ماء: يحلمنَ بحمّام ساخن، لِيُنظفنَ أجسادهنّ وجزءاً من أرواحهنّ، من دم الحيض وجُزيئيات الجو الملوّث، بينما حولهنّ مئات الألوف من الحطام البشري والغبارُ التصق بهم وبهنّ وبسقف الأنف، كما سقف الخيمة؟ 

يا رب وأنت خالق الإنس والجنّ، بينما طائرات الإف 16، و18، و35، كما مسيّراتهم العسكرية، تتعامل معنا بوصفنا أشباحاً عدوّة، يجب أن تزول، لِمَ لا تحوّلهم أشباحاً، رحمةً بهم، كونَ الأشباح حين تُعدم، لا تتألم.

 

* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون