- يبرز المعرض أهمية الاسكتشات كنصوص بصرية قائمة بذاتها، مما يعكس وعياً بأهمية الأرشيف الفني وضرورة التعامل مع مسودات الفنانين كجزء مهم من أعمالهم.
- حامد ندا، المعروف بمزج الواقعي بالميتافيزيقي، يقدم من خلال الاسكتشات لمحة عن العلاقة بين الفن والذاكرة الجمعية، مسجلاً إيقاع عصره ومخزونه الثقافي المصري.
ليس من المعتاد أن يُتاح للجمهور أن يرى فناناً بارزاً مثل حامد ندا في لحظة التكوين الأولى، حين يكون الخط ما يزال متردداً، والخيال في طور التشكل. فالعادة أن نعرف الفنان من خلال لوحاته المكتملة، تلك التي تحمل توقيعه وتُعرض في المتاحف أو تطبع بشكل أنيق في الكتالوغات. لكن ماذا لو وجد المشاهد نفسه أمام مساحة مختلفة، حيث الخطوط الأولى تكشف عن طريقة تفكير الفنان وعلاقته المباشرة بالورق. ومن هنا جاءت مبادرة غاليري ضَي في القاهرة لتنظيم معرض "اسكتشات حامد ندا"، الذي يضم 42 ورقة صغيرة تحمل خطوطه الأولى وارتجالاته البصرية. المعرض المستمر حتى السادس من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، يبدو نافذة على العالم السري الذي كان يخطّه الفنان الراحل لنفسه قبل أن يتحوّل إلى لوحات مكتملة.
من يتأمل هذه الرسوم السريعة يدرك أن ما نراه ليس مجرد تمرينات أو تخطيطات عابرة، بل بذور عالم كامل سيزدهر لاحقاً في اللوحات الكبيرة. تتجلى فيها ملامح المجاذيب وحلقات الزار والكائنات المهجنة، جنباً إلى جنب مع القطط والديكة و"لمبات الجاز" والمقاعد الخشنة. إنها المشاهد نفسها التي أعاد ندا صياغتها في ما بعد، لتصبح جزءاً من معجمه البصري الخاص. حتى في أبسط الخطوط، يظل التوتر بين اليومي والأسطوري هو ما يمنح هذه الاسكتشات فرادتها. وعلى الرغم من بساطة الورق والمواد المستخدمة في الرسم، إلا أن هذه التخطيطات تكشف عن حس درامي شديد الوضوح، إذ تطالعنا شخصيات تتحرك في دوائر، وعناصر تتصادم، وأجساد في حالتي رقص أو توتر، وكأن الفنان يدوّن رؤى سريعة من عالم داخلي محتدم.
اللافت في هذا المشروع أنه يضيء جانباً قلّما يحظى بالاهتمام، حول الاسكتش بوصفه نصاً بصرياً قائماً بذاته، لا مجرد مرحلة أولية للوحات لاحقة. هذا التوجه يعكس وعياً بأهمية الأرشيف الفني، وبضرورة التعامل مع ما يتركه الفنانون من أوراق ومسودات باعتبارها جزءاً لا يقل عن أعمالهم المكتملة. من هنا، يمثل المعرض خطوة لفتح نقاش أوسع حول كيفية حفظ الذاكرة البصرية، وكيف يمكن لمثل هذه المواد أن تغيّر فهمنا لتجربة الفنان. فالاسكتشات تكشف لحظة الصراع الأولى بين الفكرة واليد، وتسمح للمشاهد أن يقترب من عملية الإبداع نفسها لا من نتيجتها النهائية فقط.
مشاهد أعاد صياغتها لاحقاً لتصبح جزءاً من معجمه البصري الخاص
وُلد حامد ندا عام 1924، وارتبط اسمه بجماعة الفن المعاصر التي سعت منذ الأربعينيات إلى كسر الأكاديمية والانغماس في الحياة الشعبية. انشغل في بداياته بالمجاذيب والمشعوذين، قبل أن يطوّر لغة تجمع بين الواقعي والميتافيزيقي. في لوحاته، نرى كائنات مهجنة، وطيوراً برؤوس بشرية، وحيوانات تعزف الموسيقى، وسط مشاهد أقرب إلى الكوابيس. ومع ذلك، ظل ندا مشدوداً إلى الروح المصرية، فمزّج الأيقونات الشعبية بالأرابيسك وزخارف الوشم وموسيقى المقاهي، ليصوغ منها عالماً متفرّداً. وقد عكست أعماله دوماً ازدواجية النظرة، بين الاحتفاء بالإنسان البسيط، وفي الوقت نفسه تعرية لقسوة الواقع.
الاسكتشات المعروضة اليوم تقدم لمحة عن هذه الجدلية منذ لحظتها الأولى، حيث نرى الخط البسيط وهو يتلمّس الطريق نحو رمزية وصياغة أعقد وأغنى. تمنح هذه التجربة المتلقي أيضاً فرصة للتفكير في العلاقة بين الفن والذاكرة الجمعية. فالاسكتشات ليست مجرد ملاحظات شخصية لفنان، بل هي وثائق بصرية تسجّل إيقاع عصر بكامله. في خطوط ندا المرتبكة أحياناً، يمكن أن نلمح صدى أحياء القاهرة الشعبية بما تحمله من طقوس وأساطير وأصوات بشرية. وبذلك يصبح المعرض وسيلة لاكتشاف ما هو أبعد من الفنان ذاته: إنه مرآة لمخزون ثقافي ظل كامناً في الذاكرة المصرية، قبل أن يُعاد إنتاجه في صورة فنية. وهكذا، يتحول العمل الفردي إلى شهادة على روح زمن ومجتمع.
تكشف هذه الأوراق الصغيرة أن ندا لم يكن فنان اللوحة وحدها، فقد بدا أنه يفكر بعينيه، ويتأمل الأشياء بأنامله، ويسجّل أفكاره على أي ورقة تقع بين يديه. خطوطه الأولى أشبه بملاحظات يومية، لكنها تحمل طاقة تكفي لأن تتحول إلى أعمال كبرى. هنا تظهر قيمة المعرض، فهو يتيح لنا أن نرى الفنان في حالته الأعمق، وهو يجرّب ويتردد ويغامر.