استمع إلى الملخص
- ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام: "ذات"، "نكبة"، "آباء وأبناء"، و"يوميات الوباء"، حيث يتناول العوالم الداخلية، الجسد الفلسطيني، تأملات الأبوة، وهشاشة العزلة.
- يتميز الكتاب بالتجريب اللغوي واستقصاء النفس، مؤكدًا على أهمية لقاء الإنسان مع ذاته وتحريرها، ويعتبر تجربة كيانية لتحرير الذات من القيود.
يصدر مصطفى قُصقُصي في كتابه "احترام الألم: تمارين في تهذيب العطش" (2024)، الصادر عن "دار مرفأ"، عن رؤية تقوم على الشعور واللاشعور؛ وهو أمرُّ لا مفرُّ منه، خصوصاً أنّنا في ظلِّ الحديث عن طبيبٍ نفساني له تجربة في الاختصاص النفسي والعيادي، إلى جانب كونه شاعراً.
عالم الشعور، بالنسبة له، هو كلُّ ما يقابل الحياة بمعناها المباشر والظاهر من تجارب البشر اليومية: إنها طرائق التفكير والممارسة حيث "الحياة بلا سرٍّ هي حداد غير مكتمل"، وحيث هي "شتات أعضاء مُشرذمة تنتظر لمسةً حنونة"، وحيث الوجود هو نفسه "أحجيةٌ فاتنة".
لكن مقابل هذا العالم المباشر ثمّة "شوق لحياة إنسانيّة تتجلّى في الحلم والاحتمال". هنا تحديداً تبدأ معالم عالَم اللاشعور، أو إن صحَّ التعبير، عالَم الألم؛ الذي يشغل مكاناً أوسع من المكان الذي يشغله الشعور، وحيث كلّ شيء يتناقض ويتعارض مع الحياة اليومية السائدة أو مع عالم الشعور. تحديداً في هذا العالم اللاشعوري، سنلاحظ أنَّ الشاعر يستخدم لغة مغايرة عن لغة الشعور، عن لغة الحياة المباشرة. إنها لغةٌ شاعرية - نفسانية أقرب إلى عوالم فرويد ولكان، لغة تحرّر عوالم الداخل من قيود التعبير السائدة. لغة من التطلّعات الكامنة في أعماق الكائن، حيث نقرأ القلق والرغبة. يقول:
"كن ما يريد لك شوقك الإنسانيّ أن تكون. لا تطمئن إلى أصنام الممكن والمتوارث والمألوف. كن جديراً بمستحيلك الذي فيك والذي أنت فيه".
هكذا، بين هذين العالَمين الشعوري واللاشعوري، تبدأ حياة الإنسان، بين الباطن والظاهر، بين المرئي واللامرئي. ربّما لهذا كانت الحياة الإنسانية، بالنسبة للشاعر، هجرة قسريةً أو منفى. فالإنسان، طفلاً، يولد منفيّاً أو نازحاً إلى منفى لا عودة منه. يقول:
"يُنفى الطفل عن دياره الأولى على تخوم العالم، هناك حيث يقيم حصريّاً في حضن أمه ثم يُقذف خارج بوتقة انصهاره ويقضي جلّ عمره في العودة المتخيّلة إلى وطن أموميّ رحيم وغامض لا يستطيع إليه سبيلاً".
الكتاب نصوصٌ محض نثرية وقد قُسّم إلى أربعة أقسام، هي: "ذات" و"نكبة" و"آباء وأبناء" و"يوميات الوباء". ولئن كان القسم الأول "ذات"، اتجاهاً نحو الداخل وعوالمه العميقة، كان لا بدَّ أن يوازيه مسارٌ آخر نحو الخارج، الذي لا يمكن فهمه دون التوغل أولاً في العوالم الداخلية.
نصوص تحرّر ليس من قيود الخارج فحسب، بل من قيود الداخل
هكذا سيكون هذا العالم الخارجي بشعاً ومريراً، إنه عالم النكبة، ألوانها وظلالها، عالم الجسد الفلسطيني ومصائره: العائدون، الفقدان، الغضب، العنف، وكل ما يقود إلى الحرية. يكتب: "بلاد لا يعنيها إله الحرب في شيء، تستعيد ثقتها بالمستحيل، أي بأظافر تعجن النهار بالتراب، وتحبس الحراس في كوابيسهم وتعيد هندسة الحنين: إنّا للحرية وإنا إليها لراجعون".
في القسم الثالث من الكتاب، يتأمّل الشاعر حول الأبوة؛ تلك السلطة غير القادرة على الموت رمزياً في الثقافة العربية والانسحاب من منافسة الأبناء على حصتهم في الوجود الأصيل. من أجل ذلك يستحضر الشاعر مقاربات أسطورية، تأملات دينية، مقولات تراثية ويضعها في قالب المستقبل، ذلك المكان الذي يأتي منه الأبناء، من وطن الاحتمالات أو من منفاها. يقول: "يبني الابن حياته وذاته من مواد نادرة لا تُستخدم إلا في تشييد القصائد. هناك حيث يستنجد الأفق بسفينة، ويسترشد الطريق بوردة في مهبّ الريح، وتمضي حياة عزلاء بشجاعة الثوار الحالمين إلى مصيرها المَحلوم".
في "يوميات الوباء"، القسم الرابع والأخير من نصوص الكتاب، يمتزج كل شيء: أسئلة الذات الفردية مع أسئلة الجماعة، المرئي اليومي والمباشر مع اللامرئي الغامض والغائب؛ عالم الرغبات والقلق والنزوع والصبوات والأحلام مع العقل المنطقي البارد والجاهز والواضح. في هذا كلّه ثمة شعور وحيد يهيمن على النصوص، على الذات وعلى الآخر: الهشاشة.
ربّما هي هشاشة العزلة، أو ربما كانت هشاشة استحضار مفردات الذات الوحيدة والمنعزلة كي تلتقي الآخر في لغة تُعيد تعريف الألم بوصفه تأسيساً لفهم الذات الإنسانية والعالَم من حولنا والتوغّل بينهما، وما يعنيه ذلك من حيوات غابرة وشغوفات ونسيانات. هكذا يسأل الشاعر، لا بحثاً عن إجابة، إنّما رغبةً منه في مشاركة الأرق: "هل أنجو بجلدي أم بمخيّتلي؟ أم أنّ الأمر سيّان؟ هل أخرج إلى هذا الليل شاهراً سيف أرقي؟ وأين الآخرون؟".
قد تكون المزية الرئيسية لنصوص "احترام الألم" هي محاولتها استقصاء عوالم النفس الداخلية، من الناحية النفسية، والتجريب تعبيرياً في أشكال ونماذج لغوية جديدة، من الناحية الإبداعية. ولما كان علم النفس أقرب إلى العلم، وكانت اللغة أقرب إلى الأدب أو الشعر، فيمكننا القول إنها محاولة للكشف عيادياً عن الحالة الإنسانية على سرير اللغة. إنها محاولة عيادية نفسانية لافتتاح عوام الكيان الإنساني والغوص في أبعادها وثناياها ومجاهيلها، ولكن دائماً انطلاقاً من محاولة أخرى هي: التجريب اللغوي. فقصقصي يعرف جيداً أن اللاوعي في الحياة العربية يكاد أن يسخّف ويُنكر، وأن هناك خطابات تصادر أعماق الكائن الإنساني. ربما لهذا يطالب الشاعر بنبرة نفسانية "باستحضار وترسيخ أخلاقيات علاجية تعيد الاعتبار إلى المعاناة الإنسانية باعتبارها لغة من لغات التواصل مع الوجود".
الكتابة، بمعناها العميق، هي تحرير الذات أوّلاً. وهذا التحرّر ليس من قيود الخارج فحسب، بل من قيود الداخل أيضاً. ضمن هذا المعنى، نصوص كتاب "احترام الألم" لمصطفى قصقصي، هي تجربة كيانية توكّد هذا التحرر من قيود الذاتية الداخلية، وهي بمثابة تمارين للسير على طريق لقاء الإنسان مع ذاته وتفتحه على الخارج بتحرّر وحرية وتكامل. يقول: "نتعلم، إذ نطل على ذاتِنا في محنتها وامتحانها وارتهانها للآخر، أن نعيد اختراع عزلتها بحيث تشفُّ وتشفى من ضبابها الأناني وتكفُّ عن إقصاء الآخرين وتهجيرهم خارجها، نتعلم أن نلتقي إنسانيّتنا بعد طول غياب.. غيابنا.. وغيابها".
يُذكر أنّ مصطفى قصقصي شاعر واختصاصي نفسي عيادي من مواليد بلدة شفاعمرو في فلسطين. يعمل محاضراً وباحثاً ويهتم بدراسة الآثار النفسية الاجتماعية للنكبة. حصل على دكتوراه من "جامعة إيسّيكس" في بريطانيا. صدر له "في هجاء الأمل" (2015)، و"لأضيّع بيتي" (2024)، يكتب ويترجم بين اللغتين العربية والإيطالية.