استمع إلى الملخص
- الروائي البشير الدامون قدم سيناريو "لسان الدين بن الخطيب ذو القبرين"، مستغرقًا ستة أعوام في البحث، ليبرز دور المرأة ويصحح الفهم الخاطئ حول ابن الخطيب.
- يقترح الدامون تحويل كتابه إلى مسلسل تلفزيوني، مما يعكس اعترافًا رسميًا من المؤسسة الأدبية ويفتح المجال لدراسته أكاديميًا.
مثلما عرف الأدبُ، منذ ظهور نصوصه الأولى الشفهية منها والكتابية، انسلاخ أجناس وفنون منه، واستقلالَها بذاتها عن أنواعه الأدبية الثلاثة الكبرى، التي نظَّر لها أرسطو، كما هي حال المقامة والرواية والقصة والشعر الحر وقصيدة النثر والقصة القصيرة جداً والهايكو وغيرها، كذلك شهد التحاقَ أشكال فنّية عديدة به، ليصير مفهوم صفاء الأنواع الأدبية ذا سيرورة وصيرورة في ذات الوقت، وأنه يُمكن في أيّ لحظة أن تلتحق به فنون لم يُتصوَّر أن تتبنّاها المؤسَّسة الأدبية.
والواقع أن المؤسَّسة الأدبية، مُمثَّلة في الجامعة، ومؤسَّسات النشر، والملاحق الأدبية، والمجلات، والمجامع اللغوية، والمؤتمرات، والمهرجانات، والندوات الأدبية، والملتقيات، والجوائز، ومعارض الكتاب، إلخ، ليست هي الحاسمة في إضفاء الشرعية الحقيقية على التحاق جنس أدبي طارئ بباقي الأجناس المُعترَف بها، بل الأمر يُردّ أساساً إلى ضغط مُجتمَع القُرّاء، الذي عادةً ما يُقبِل على هذا الجنس الأدبي حديثِ الولادة، باقتناء نصوصه، وحضور أنشطته وما يُسمع به صوته. وعادةً ما يكون ذلك بدعم من جهة ما داخل المؤسّسة الثقافية، مثل دار نشر مُغامرة، فيَنجُم عن رواجِه انتقالُه من الهامش إلى المركز، وتلك هي الأطروحة التي تُدافع عنها نظرية الأنساق المتعدِّدة.
مُناسبة هذا الكلام ورود سيناريو عنوانُه "لسان الدين بن الخطيب ذو القبريْن أو خريف غرناطة: سيناريو مسلسل" لصاحبه الروائي المغربي البشير الدامون، (صادر عن "منشورات باب الحكمة" بتطوان، 2023) ضِمن القائمة الطويلة - فرع الآداب- للكتب المرشّحة للفوز بـ"جائزة الشيخ زايد" لهذه السنة.
ومعلوم أن كبار الكُتّاب في العالَم العربي قد تعاطوا كتابةَ السيناريو، مِثل نجيب محفوظ الذي في رصيده أعمال سينمائية مهمة وكثيرة، ومنهم من برّز في هذه الكتابة على الرغم من كونه روائياً، وأَقصِد هنا أسامة أنور عُكاشة، الذي هيمن كاتبُ السيناريو فيه على الروائي والصحافي. ولا غرو أنَّ الدخل المادي الذي يُجنى من كتابة السيناريو يُغري مُجترِحيها، لأنّه يفوق عائد الكتابة الروائية أو الصحافية بكثير، وهذا أمرٌ عاديٌّ، فالمكانة التي تحظى بها هذه الكتابة عالمياً رفيعة للغاية، لِتَطلُّبها سعةً في الخيال، وأصالةً في التفكير، وخبرةً بالحياة تاريخاً ومَعيشاً، واقتداراً على الوصل بين الأحداث والنفسيات.
نصٌّ يستهدف القارئ والمُشاهد العربي على حدٍّ سواء
وقد كاشفنا الروائي البشير الدامون، في لقاء أدبي، بأنَّ عمله الذي جاء في 714 صفحة، قد استغرق منه ستّة أعوام من العمل المضني، وأنّه حرص فيه على التنقيب عن كلّ مادة أو معلومة تاريخيّة أو أدبية أو نقديّة أو غيرها ذات صلة بهذا العلَم الأندلسي الموسوعي، الذي اجترح مختلف أشكال الكتابة على عهده، إضافة إلى امتهانه السياسة.
هكذا اطلع البشير الدامون على عشرات المصادر والكتُب النقدية والمقالات باللغتيْن العربية والإسبانية، فأحاط بالعَلم وظروفه وعصره، وصحَّح بعضاً من القراءات الخاطئة التي ارتكبها غيرُه، من بينها أن بعضَهم قرأوا وفهموا "إقبال" في مطلع قصيدته (رُوِّعَ بَالِي وهَاجَ بَلْبَالي/ وسَامني الثَّكلَ بُعْدُ إِقْبَال) على أنّها الدنيا التي تنكَّبته، بأن أعرضت عنه، في حين أنّ منهم من عدَّ "إقبال" زوجته المتوفاة، بينما زوجتُه كان اسمُها "آمال"؛ وهي ابنة شيخه العلامة الأديب أبي الحسن ابن الجَيّاب الغرناطي، ولذلك فقد أدرجَها الدامون شخصيةً ضمن مُؤلَّفه، مُعيداً إلى المرأة الاعتبارَ المُستحَقَّ، على غرار موقفه النسوي المعهود فيه بأعماله الروائية كلّها.
ولا غرو أنّ ابن الخطيب من أبرز الشخصيات الأدبية في التاريخ العربي برمّته، وليس التاريخ الأندلسي وحده، ففي الشعر العربي مثَّل انعطافاً حاسماً بتحويله لِمَسير الأخير إلى الموشَّح، صدوراً عن تمكُّن وإحكام لصنعة الكتابة القديمة على منوال الشُّعراء القُدامى، ففتَح بابَ التجديد والاجتراء على القديم أمام مُبدعي الشِّعر في عصره وما بعده.
لقد وُلِد ابن الخطيب في لوشةَ، قُرب غرناطة، سنة 1313، وقُتل في فاس خنقاً في السجن أو حرقاً، بعد اتهامه بالزندقة والإلحاد، فدُفنَ ثم أُخرج من قبره وأُحْرق ودُفن ثانية، لذلك لُقِّب بذي الميْتتيْن، وذي القَبريْن؛ وأُطلق عليه ذو الوزارتيْن لجمعه بين وزارة السّيف والكتابة لدى ملوك بني الأحمر، ولُقِّب بذي العُمريْن أي الحياتيْن، لأنّ عيْنيْه لم يَغمض لهما جفنٌ، بسبب الأرق الذي كان يُعانيه، فكان يُسيِّر المملكة نهاراً ويكتُب ليلاً في الشعر والنثر والتاريخ والجغرافية والفلسفة والطب والفقه والتصوّف والسياسة والرحلة والموسيقى والنباتات. كما عايش أربعة سلاطين، ويُقال إن باب المَحروق في فاس سُمِّيت على حادثة إحراقه.
يقترح الكاتب المغربي في كتابه أن يُخرَجَ العملُ تلفزيونياً في 27 حلقة، في تصوُّر مُحكَم يُوازن بين الحلقات، التي يُفتَرض أن تُقدَّم في شهر رمضان، وهو يعي جيّداً أن مؤلَّفَه يستهدِف القارئ والمُشاهِد العربي، الذي ستكون له الفرصة للاطلاع على صفحات من التاريخ العربي في الأندلس والمغرب، الذي لم يُقدَّم منه في الأعمال التلفزيونية الدرامية العربية سوى القليل.
وواضح أنَّ الدامون يُعلن من خلال سيناريو "لسان الدين بن الخطيب ذو القبريْن أو خريف غرناطة" عودتَه إلى الاشتغال بالتاريخ مجدَّداً، بعدما كان قد وظَّفه روائياً في نصه "هديل سيدة حُرَّة"، المرأة التي حكمتْ تطوان في القرن السادس عشر، ومارست الجهاد البحري مُقاوِمة التوسُّع الإسباني والبرتغالي، ومُشيِّدة مجداً استثنائياً في ظروف صعبة للغاية.
ولا يخفى أن تصنيف هذا المؤلَّف ضمن كتُب جائزة الآداب المذكورة أعلاه سابقةٌ نقدية، في تاريخ الجوائز الأدبية العربية، وأنها تَشي بأنّ المؤسَّسة الأدبية العربية قد اعترفتْ رسميا بهذه الكتابة، وأعلنتْ عن إدراجها جنساً أدبياً رسمياً، ليُقرأ ويُتدارَس أكاديمياً، وخارج الأكاديمية أيضا.
* أكاديمي ومترجم من المغرب