استمع إلى الملخص
- تستعرض الرواية التاريخ الثقافي للخليج، مبرزة أهمية الفنون كجزء من التراث الإنساني، وتلتقي شخصيات تاريخية مثل الكِندي وسبينوزا لتعزيز التجربة الجمالية.
- يعكس عنوان الرواية بحثًا عن إيمان فردي ينبع من قيم الجمال، حيث تسعى الشخصيات لتحقيق المستحيل، مثل رسم الموسيقى كروح تعبر الأزمنة.
ينطوي رهانُ الكاتبة الإماراتية صالحة عبيد (1988) في روايتها الأخيرة "إلَّا جدَّتُك، كانت تُغنِّي" على فكرةٍ مستحيلة تؤسّس لها في بيئة ترفض الفنون. مع ذلك، يبقى النَّصُّ أميناً للحكاية التي ينقلها عن شابَّين؛ أحدهما يُريد أن يرسم الموسيقى. والآخر أرادَ أن يستمرّ راقصاً، وسليلاً لعائلة شغفتها الموسيقى. والرواية، الصادرة حديثاً عن "منشورات المتوسط"، تُناغم بين هاتين الروحين تناغُماً تنظّمه الراوية التي تُخاطب أحدهما، وتقصُّ حكاية الآخر، وكأنما تقابلُ مرآةً بمرآة لجسدٍ أظنّه الشغفَ بالفنّ.
في المرايا السردية التي تتقابل نعرفُ أنّ شاهين قُتل في عرس، واستمرَّ صوته يرافق الراوية، وهُما يشتركان في بيتٍ قديم. وبمعونة الصوت الذي يشتملُ النَّصّ كلّه، أخذت الراوية تُرمّم ذكرياتها في المكان الذي اتّفق إخوتُها على بيعه. أحداث الرواية الفاعلة في السَّرد تحدُث في الإمارات، في الثمانينيات، كما يشيرُ النَّصّ. أيضاً نعرف عن مروان الذي يكسر نمطيَّة خاصَّة بعائلته، ويعمل بحّاراً. ثمّ يذهب إلى الحجّ. وما السّفر للحجّ إلا ستارٌ لتعلُّم مهارات صناعة العود. حتى بدا أنَّ النَّصّ يدور في هذا العالم الذي يسعى، أو تحثّه الكاتبة كي يدمجَ الفنون في العيش، ويرصد حركة الفنون ضمن الحياة. وهي تنقل - عبر الرصاصة التي تقتل الراقص - لنا الزمنَ بتغيّراته في مجتمعات الخليج العربي. وذلك بإصرارها عبر كلّ فصول الرواية على ذكر الحادثة بصفتها ذكرى قديمة حدَثت، وكأنّها حدثَت لمرّة واحدة. والأهمّ، أنَّها تعرضُ القتل خطيئةً، لا بطولة فيه.
لا يغرق النَّصّ بسرديّة تؤكّد الموسيقى خطيئةً. ودليل القارئ إلى ذلك أنَّ الجريمة لم تُساعد القاتل في غسل عاره، بل يستقبل القارئ الرَّصاصة في العرس، مثل ندم، لأنَّ حوادث كهذه تُقرأ بمآلها في الحكاية، وبالصورة التي تقود بها السرد. لنعرف أنَّ القاتل، وهو في السجن، كان يتمايل ويحاول الرَّقص. كما لو أنَّ تلك الروح المقتولة التي استمرَّت تزور الراوية، استمرَّت أيضاً تزور القاتل إلى أن قتلَ نفسه.
نصٌّ يبحث عن إيمان فردي يتأتّى من أخلاقيات الفنّ
قراءة التاريخ الثقافي في الخليج العربي أحد جوانب الرواية التي نقرأ فيها حكاياتٍ عديدة عن الموسيقى، والرسم، وعن فنّ النحت. والكاتبة مشغولة بكتابة نَصٍّ يجعل الفنون انتماءً أوسع من المكان. كما لو أنَّ سيرة شاهين التي بُترت في أرضها الأُمّ، أخذت تنمو في مكانٍ آخر، وتستطيلُ في مرآة أُخرى للتراث الإنساني المشترك. على هذا النحو، يرصد القارئ أمانة النَّص للحكاية الإماراتية، ويرصد كذلك عمل الكاتبة في مساحة مشتركة تجعل من الكِندي ومن رودان وسبينوزا، وغيرهم العديد؛ شخصيات تلتقي كي تُغني تجربة البشر الجمالية ككلّ.
كما لا يفوت القارئ أنَّ عبيد تسند عنوان روايتها أساساً للجدّة التي لم تكن تُصلّي مثل جدَّات أُخريات، بل كانت تُغنّي، وكأنَّ الكاتبة والجدّة معاً تُحْدِثان مكاناً للغناء. أيضاً كان لمروان حَجُّهُ بين مجموعة من العوّادين السعوديّين. فالنَّص يبحث عن إيمان فردي، يتأتَّى من قيم الجمال، ومن أخلاقيات الفنّ، تنحتهُ الكاتبة وسطَ إيمان تقليدي عامّ. وكأنّها تؤصّلُ الانتماء للفنون عبر مجموعة حقائق وأحداث، وعبر فكرة مستحيلة دفعت أحدهم لأن يرسم الموسيقى، ورسمها؛ روحاً تعبرُ الأزمنة.
* روائي من سورية