إسبانيا والقارة الأميركية... تاريخ، لغة ومائة عام من العزلة

إسبانيا والقارة الأميركية... تاريخ، لغة ومائة عام من العزلة

28 يوليو 2021
ساحة "كريستوبال كولون" في مدريد (Getty)
+ الخط -

إسبانيا على ضفة، وعلى الأخرى القارة الأميركية، وبينهما تاريخ مشترك، لغة واحدة، محيط، ومائة عام من العزلة. بهذه الطريقة يلخّص كل من خوان بابلو وأنطونيو لوبيز فيغا العلاقة "الزوجية"، على حد تعبيرهما، التي ربطت بين الإمبراطورية الإسبانية العظيمة سابقاً، ودول القارة الأميركية المستقلة اليوم في كتابهما "حوارات أطلسيّة: الثقافة والعلم بين إسبانيا وأميركا في القرن العشرين"، والصادر حديثاً عن دار نشر "Galaxia Gutenberg".

الكتاب الذي يبدأ مع بداية استقلال الجمهوريات الأميركية، يروي تاريخ العلاقات المتوترة التي عاشتها كل من إسبانيا ومستعمراتها السابقة، إذ طال الجفاء بينهما على مدى القرن التاسع عشر كله تقريباً، على الرغم من كل ما يوحدهما بدءاً من القاسم اللغوي، ولكن حقيقة الأمر تقول إن العلاقات الفعلية لم تبدأ حتى مطلع القرن العشرين، ويعود الفضل في ذلك إلى العديد من الشخصيات الثقافية والمؤسسات والجمعيات والمنشورات التي ساهمت في لمِّ الشمل وروّجت إلى ضرورة فتح سفارات بين الدول، ولكن هذا الأمر لم يتم فعلياً حتى العام 1917، بعد ضغط العديد من الشخصيات الثقافية وفي طليعتها الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت الذي قال آنذاك "إن إسبانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي ليست لها علاقات سياسية أو ثقافية مع القارة الأميركية".

وقد تزامن كل ذلك، كما يشرح الكاتبان، مع "اكتشاف العالم الأميركي"، الذي نهض كقوة رئيسية وأساسية بعد دوره الحاسم في الحرب العالمية الأولى، حينها أدركت إسبانيا أهمية الحوارات الأطلسية، لا سيما في مجالي العلم والثقافة. هكذا تأسس "المعهد الثقافي الإسباني-الأرجنتيني" الذي روّج له كل من أورتيغا أي غاسيت ومينينديث بيدال الذين لم يترددا في السفر هناك وإلقاء المحاضرات.

لعبت مؤسّسات النشر أدواراً مهمة للربط بين القارتين

إننا في الفترة الفضية من الأدب الإسباني والتي امتدت بين 1898 و1939، حيث شهدت هذه الفترة، على الرغم من كل كوارثها وأزماتها السياسية والاقتصادية والديكتاتوريات والحروب، "سخاءً في السرية"، يوضح الكاتبان، في إشارة إلى المصطلح الذي نشره آنذاك الفيلسوف الإسباني خوسيه غاوس، والذي اضطر إلى مغادرة إسبانيا بسبب الحرب الأهلية.
 
يخصّص الباحثان جزءاً مهماً من الكتاب لتحليل القسم الأول الذي حمل عنوان "لم الشمل الثقافي المعقد"، حيث يسلّطان الضوء على الدور الذي لعبه مثقفو إسبانيا وأميركا اللاتينية. فميغيل دي أونامونو نشر، تمثيلاً لا حصراً، ما يقارب أربعمائة مقال في الصحافة الأميركية، بينما سافر رائد الحداثة الإسبانية، الشاعر النيكاراغوي روبن داريو، إلى إسبانيا، تاركاً بصمته في الشعر الإسباني، بطريقة أثرت على جيل كامل من الشعراء الإسبان، لا سيما خوان رامون خيمينيز وأنطونيو ماتشادو. أثمر هذا اللقاء الثقافي بين المثقفين عن إصدار صحف على درجة عالية من الأهمية، تماماً كما هو الحال مع صحيفتي "البرينسا" و"الناثيون" التي راح كل من راميرو وآزورين يكتبان فيها، إضافة إلى حضور استثنائي لكل من فيسنتي بلاسكو وفيدريكو غارسيا لوركا. على الطرف الآخر من المحيط، وتحديداً في المكسيك، كان الفيلسوف والشاعر المكسيكي ألونسو رييس، والذي أقام في إسبانيا بين 1914 و1924 يكتب أروع الدراسات عن الأدب الإسباني. في أثناء هذا كله، كانت العلاقات مع المكسيك في أوج ذروتها، لا سيما بعد إصدار مجلة "ريفيستا دي أوكسيدنتي"، التي احتضنت جميع الأفكار والتوجهات، شعراً، روايةً ونثراً.

ما لم يستطع التاريخ أو اللغة لم شمله، فعلته الحرب، تحديداً الحرب الأهلية الإسبانية، حيث شهدت تلك الفترة، كما يشير الكاتبان، هجرة ما يقارب 20 ألف إسباني إلى المكسيك، من بينهم العديد من المثقفين والفنانين والعلماء. هنا، تحديداً، يبدأ الكاتبان بالحديث عن ملامح أولى للعلاقات على الصعيد العلمي بين إسبانيا والمكسيك، إذ قام العديد من العلماء بتطوير أعمالهم في مختبرات المكسيك، ومن ثم الأرجنتين.

الصورة
حوارات أطلسيّة - القسم الثقافي

ينتقل الكاتبان بعد ذلك للحديث عن مرحلة الانفجار الأدبي المعروفة باسم "البوم"، بما فيها من توترات وسوء تفاهم بين الكتّاب ودور النشر. ستكون برشلونة ودور نشرها عاصمة كتّاب أميركا الجنوبية، وسيجد فيها كل من ماريو بارغس يوسا وغابرييل غارسيا ماركيز بيته الأدبي، وبذلك سيصبح أدب أميركا اللاتينية أساسياً في قطاع الكتاب والنشر في إسبانيا، كما يذكر الكاتبان.

ويخصّص الكتاب جزءاً لا بأس منه يتناول العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، والتي تحولت في غضون سنوات قليلة، كما يشير الكتابان، من علاقة رفض بعد حرب التمثيل الإيمائي في كوبا إلى علاقة افتتان وسحر في الثقافة والأدب الإسباني واللاتيني، مما دفع العديد من رعاة الأدب والفنون الأميركيين إلى احتضان وتقديم أدباء يكتبون باللغة الإسبانية، كما هو الحال، تمثيلاً لا حصراً، مع آرتشر م. هنتنغتون الذي أسّس في نيويورك "الجمعية الهيسبانية"، والتي احتضنت أعمال جميع أدباء تلك المرحلة، إضافة إلى أنها روجت للتبادل الثقافي بين كلٍّ من إسبانيا وأميركا.

يظل القاسم اللغوي الأرضية التي يستند إليها كل تقارب

ضمن هذا السياق، يستشهد الكاتبان بالعديد من النصوص والرسائل والمقالات التي تصف انبهار أدباء إسبانيا بالولايات المتحدة الأميركية، فها هو رامون بيريز آيالا يقول عن أميركا إنها "أرض جميع الأجناس، هنا ثمة مكان لجميع الأفكار والمشاعر لكي تذوب وتنصهر في بوتقة واحدة"، وها هو الفيلسوف الإسباني خوليان مارياس يسرد انطباعاته عن الأراضي الأميركية مقتنعاً بأن مستقبل الغرب يكمن في النظر إلى ما يجري في الولايات المتحدة.

غير أن هذه النظرة المثالية التي رأى من خلالها أدباء إسبانيا الولايات المتحدة تحطمت في النصف الثاني من القرن العشرين بفضل علماء فقه اللغة، لا سيما أميريكو كاسترو وفيدريكو أونيس. هكذا أصبحت سماء نيويورك تقتل، صار شجرها لا يغني، وعادت بقرةً غير حلوب، مدينة بلا أحلام، مدينة عظام، حمام أسود وماء معفن، تماما كماً وصفها لوركا، شاعراً في نيويورك.


* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا

المساهمون