إبراهيم فرغلي: أن تُدوِّن الحكاية بالقلب

15 يناير 2025
إبراهيم فرغلي
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- إبراهيم فرغلي يتميز بأسلوب سردي فريد يركز على إمتاع القارئ من خلال اللعب باللغة والوصف، متجاهلاً سوق النشر.
- في "بيت من زخرف"، يقدم سردًا مبتكرًا يستلهم من تاريخ ابن رشد والأندلس، حيث يتم قلع الشخصيات التاريخية من سياقها وزرعها في زمن سردي جديد، مما يجعل السرد مؤرخًا والكاتب مراقبًا.
- الرواية تقدم درسًا في مقاربة التاريخ دون تحويله إلى رواية تاريخية، مع التركيز على العقل والعشق، وخلق مسارات سردية متقاطعة تعزز المتعة في القراءة.

ثمّة كتّاب نقرؤهم كي نتابع جديدهم ونتأمل مدى اختلافهم وتطوّرهم في كل عمل جديد؛ نعلم أنّهم لن يخيّبوا ظنّنا، وإنْ كنّا نخشى أنّهم قد يحيدون عن القمة التي وصلوا إليها في عمل سابق. هؤلاء هم الكتّاب الذين نقرؤهم بالعقل. وثمّة كتّاب أقل نقرؤهم بالقلب، من دون أن نُدخلهم في مقارنات عبثية مع كتّاب العقل، ومن دون انتظار عمل أفضل أو أقوى بالضرورة؛ فالمهم الحضور، إذ يكفينا أن يكونوا موجودين ويكتبوا كي يرضى القلب؛ ورضا القلب ليس سهلاً أبداً، بصرف النظر عن الصرامة النقدية التي لا بد من وجودها في أيّ قراءة، وفي كل قراءة.

نقرأ إبراهيم فرغلي كي نستمتع بالقراءة في ذاتها، وبالكتابة في ذاتها. نقرأ كي نلاحق لذّة ارتباط الكلمات بالكلمات، والوصف بالموصوف، والمكان وألقه (وفرغلي أحد أجمل من يكتبون عن الأمكنة)، والسرد بالسرد، واللعب باللعب، وفرغلي أحد من يتقنون ويبرعون في اللعب باللغة والسرد. ما من عمل يخلو من اللعب اللذيذ الذي يُرضي كاتبه وقارئه في آن. ثمة حسرة لا بدّ منها، وهي أنه ليس مقروءاً كما يستحق، ولكن هي شجون سوق النشر وسوق القراءة وسوق الكتابة وغيرها من الأسواق والبازارات التي لا يكترث لها فرغلي كثيراً حين يكتب، برغم إدراكه بأنه يقدّم سرداً متفرداً لا يشبه إلا نفسه. ولعلّ أجمل ما في أعمال فرغلي هو أنه يسعى دوماً إلى الإمتاع، وإلى وجوب أن يكون الجديد أمتع من سابقه؛ الجمال هو بغية فرغلي، لا التطوّر السرديّ بالضرورة، من دون أن ننكر التطوّر الهائل الذي نتلمّسه في كل عمل جديد.

ليست رواية تاريخية رغم استلهام عناصر من تاريخ الأندلس

"بيت من زخرف" (دار "الشروق") أحدث روايات إبراهيم فرغلي، وأجملها. لعلّ بعض القرّاء ما يزالون عالقين عند "أبناء الجبلاوي"، ويعدّونها أفضل أعماله وأشهرها، ولعلّ آخرين يرون "معبد أنامل الحرير" أفضل أعماله، ولعل قلة قليلة تميل إلى الثلاثية البديعة "جزيرة الورد" (وأنا أحدهم)، غير أنهم يدركون أن الأجمل هي تلك الرواية الجديدة التي تباغت الجميع، بمن فيهم قرّاء فرغلي المخلصون. يباغت فرغلي الجميع حين يكتب، خالفَ توقّعات وترقّبات القرّاء الذين كانوا يتابعون هوسه الجميل بابن رشد، وباتوا ينتظرون رواية عنه، غير أن النتيجة كانت رواية تفاصيل؛ رواية تلتقط تفاصيل بعينها من حياة ابن رشد، فتنسف تاريخية السرد، لتهبه زمناً آخر لا يكترث إلا بزمنه في ذاته. ليس ابن رشد الشخصية التاريخية محور الرواية، ولا حتى عشيقته المُتخيَّلة التي احتلّت العنوان الفرعي للرواية، ولا حتى الأندلس، ولا النساء اللواتي يتقن فرغلي كتابتهنّ بأناة مذهلة. العنصر الجوهري المحوري الأوحد في هذه الرواية هو السرد في ذاته.

ليست "بيت من زخرف" رواية تاريخية إذن برغم استلهام عناصر بعينها من تاريخ ابن رشد وأندلسه، وليست حتّى تخييلاً تاريخياً، بل هي أقرب إلى قلع ابن رشد من تربته البعيدة وغرسه في تربة سردية جديدة، تصون شيئاً من ذلك التراب البعيد، وتتلمّس التراب الغضّ الجديد الذي سيمسي فضاء السرد، وفضاء حياة ابن رشد الجديدة، حين يمسي السرد مؤرِّخاً، وحين يمسي الكاتب محض مراقب لضبط إيقاع السرد من دون التدخلّ في تفاصيل الحكاية (أو الحكايات فعلياً) التي تكتب نفسها بنفسها، وحين يمسي الرواة المتعددون أصواتاً مختلفة متباينة، وأصداء متعددة في آن، للسرد الذي يدمغ الفضاء كله، بحيث يصبح الجميع، شخوصاً وحكايات وأزمنة وأمكنة، تفاصيل منمنمة تخلق جسداً أوحد يولد من السرد وينتهي به.

"بيت من زخرف" درسٌ سرديّ عظيم في كيفيّة مقاربة التاريخ من دون تحويل الرواية إلى رواية تاريخية. ليس التاريخ محوراً أساسياً هنا، بالرغم من القماشة السرديّة التاريخية العظيمة التي تحيط بالشخوص وبحيواتهم. نقرأ شيئاً من تاريخ الأندلس، وشيئاً من تاريخ السُّلطة، وشيئاً من تاريخ الفكر والفلسفة والفقه، وشيئاً من سيرة ابن رشد بلسانه وبلسان غيره، إلا أن النتيجة ليست رواية عن الأندلس أو عن ابن رشد، بل عن صورة بعينها، رؤيا بعينها، تفصيل بعينه، يلتقطه فرغلي بحيث يعيد كتابة سيرة ابن رشد تحت أضواء جديدة. ينتقي فرغلي العقلانية ويضعها تحت مجهره السرديّ، فنقرأ تاريخ ابن رشد والأندلس، وتاريخ الشخوص الأوروبية والعربية الأخرى من هذه العدسة بالتحديد. لا تفاصيل ناتئة أو نافلة أو زائدة، وما من كلمة تتمرّد على عالم العقلانية الذي يُشرّحه فرغلي بأدوات السرد هذه المرة، لا بأدوات التاريخ والبحث. فحتى الاقتباسات من الكتب التاريخية والفكرية، ووصف المعارك والحروب، أُعيدت كتابتها بمعنى من المعاني كي تنتظم داخل تلك القماشة السردية المتقنة. وكلّ تفصيل، وإنْ بدا للوهلة الأولى خارج السياق، سيجد سياقه لاحقاً في خيط من الخيوط الكثيرة التي تؤطّر حياة ابن رشد، وترويها في آن.

خيط من خيوط كثيرة تؤطّر حياة ابن رشد وترويها في آن

دائرة سردية، أو بالأحرى مسارات إهليلجية، كمسارات الكواكب، تأخذ من زمنٍ بعينه تفصيلاً محدداً، وتنقله إلى زمن آخر بحيث يتّحد مع تفصيل آخر ويكوّنان عنصراً جديداً بالمطلق. ولذا، لا يصلح توصيف "الرواية التاريخية" على "بيت من زخرف" التي تُسيِّر أمواجها تبعاً لأمواج التاريخ السائل الذي يمزج الماضي بالحاضر بالمستقبل، من دون أن تكون النتيجة زمناً أوحد، بل زمناً سائلاً لا يكاد يستقر إلا كي يعيد تشكيل نفسه في أمواج جديدة تأخذ شكل الفضاء الذي تُوضَع فيه. نقرأ حبائل السُّلطة في الأندلس ومعاركها الداخلية والخارجية لا كي نؤرّخ للأندلس ولا حتى لسياق حياة ابن رشد، بل كي نعيد تشكيل تلك المعارك في زمن آخر، يكون الحاضر تارة، والمستقبل تارة، أو زمناً آخر بلا توصيف ثابت. فلا ثبات إلا لجوهر أوحد هو العقل والعقلانية، وكلّ ما عداه متغيّر ومتقلّب بتقلّب الشخوص والأزمنة والسياقات.

ولا نقرأ سيرة العشيقة المتخيَّلة التي نحّاها فرغلي بذكاء من العنوان الأساسي إلى عنوان فرعي، بل نقرأ سيراً عدة لعشيقات عديدات، أو بالأحرى نقرأ سيرة العشق في ذاته بصرف النظر عن الشخوص. لبنى عشيقة ابن رشد طبعاً كما تنقل لنا الرواية، بيد أنها ليست مهمة بقدر أهمية تشريح ماهية العشق ومعانيه، وليس تشابهها مع قصة عشق ماريا إيلينا لسعد/إسكندر إلا تنويعاً آخر من تنويعات الجوهر الأوحد: العشق في ذاته، لا قصصه التي تتعدّد بتعدّد الشخوص. قد تغرينا المقارنات كي نحاول ملاحقة خيوط العشق وخطوطه بين عشق سعد الجديد لماريا وبين عشقه القديم لجليلة، وقد تغرينا مقاربة قصة عشق ابن رشد وقصة عشق سعد، سيما وأن ثمة قدراً كبيراً من التماثل بين شخصيتيهما، ولكنّ فرغلي ينحّي تلك التفاصيل المتشابكة بذكاء ويُفرد المساحة كلّها للجوهر وتقلّبات معانيه.

"بيت من زخرف" رواية تنشغل بتشريح معاني الجوهر، أكان هذا الجوهر عقلاً أم عشقاً أم تفكيراً. بل إنّ هذا الجوهر العقلانيّ يمدّ حدوده أكثر خارج تأطيرات التاريخ والأزمنة ليُشرّح معنى الكتابة في ذاتها، ومعنى التدوين في ذاته، ومعنى الترجمة، ومعاني مستويات الكتابة ودرجاتها. ما القصة الفعلية هنا؟ ما الحكاية الأساسية وما الحكايات الفرعية؟ تلك أسئلة نافلة في عالم إبراهيم فرغلي السرديّ الذي ينشغل بمعنى السرد في ذاته، ومعنى اللعب اللذيذ باللغة وبالكتابة، إلى حدّ أننا لن ندرك في نهاية الرواية مصدر الحكاية الأساسية. أهو مخطوط لبنى العاشقة، أم مخطوط ابن رشد العقلاني، أم مخطوط سعد ومحتنه التي تشبه محنة أستاذه ابن رشد البعيد، أم لعله مخطوط ماريانا الذي ولد في السجن، أم مخطوط العلاقة الضبابية بين ماريا إيلينا وسعد، أم هو مخطوط يجمع كل تلك المخطوطات، لا من حيث تنوّع السرد وحسب، بل أيضاً من ناحية اللغات المتعددة التي تنقّلت فيها الحكايات من لسان إلى آخر، ومن عقل إلى آخر، ومن قلب إلى آخر، ومن زمن إلى زمن.

تبدو حكايات "بيت من زخرف" وكأنها تشريح لمعاني الترجمة التي تلتهم شيئاً من الأصل كي تُشيِّد عالمها الخاص، وتصون جوهر الأصل في آن كي تصون جوهر المعنى. ليست محض ترجمة مخطوط، وانتقال من لغة إلى أخرى، بقدر ما هي لعب جميل بمعاني الترجمة كلها: ترجمة المُتخيَّل إلى منطوق، وترجمة المنطوق إلى مكتوب، وترجمة اللغة إلى لغة أخرى، وترجمة العشق إلى مداراته، وترجمة العقل إلى فضاءاته، وترجمة السرد إلى مساراته الإهليلجية المتقاطعة الرهيفة التي تنتج حكاية واحدة حين تنتج حكايات عديدة، وتخلق شخوصاً كثيرة حين تخلق شخصاً أوحد، وتُشرِّح المعاني كي تصون الجوهر، والأهم، أنها تُعلي من شأن المتعة بوصفها جزءاً لا يتجزأ من عملية القراءة والكتابة في مغامرة سردية جميلة تستلهم التاريخ كي تخلق تاريخاً أوحد هو تاريخها هي في ذاتها، وتاريخ سردها، وتاريخ حكايتها.  


كاتب من سورية

المساهمون