استمع إلى الملخص
- يتناول النص قضية إعادة الإعمار في سوريا وغزة، محذراً من أن الممارسات الحالية قد تدمر الذاكرة والهوية، مشدداً على أهمية العمارة البيئية والتخطيط السليم لاستعادة الذاكرة وبناء مدن تتناغم مع التاريخ.
- يبرز النص أهمية النقاش المجتمعي في إعادة الإعمار، داعياً لمشاركة الشعراء والفنانين، مستلهماً من تجربة حسن فتحي، ومؤكداً على تحرير العمارة من الهيمنة الاستعمارية.
يقول لي صديق لم أعرف أنه عَمِلَ بشيء سوى الكتابة والعمل الثقافي إن حلمه الآن أن يشتغل فترة من حياته - فلتكن شهراً أو فصلاً أو سنة - عامِلَ بِناء في غزّة. هو يعرف أنه لن يكون أفضل عامل بناء، ولكنه يقول إن الفكرة هي المهمة، فكرة أن نبني نحن بيوتنا أو على الأقل أن نشارك في بنائها، وأن نبني بيوتاً بمعنى الكلمة وليس مجرّد مكعبات إسمنتية مضادة لفكرة البيت من حيث كونه مكان سَكنٍ وتَعافٍ وحُلمٍ يَصلُ الذاكرة الجمعية بذاكرة أهله.
هو يخاف من مصطلح "إعادة الإعمار" كما درجت ممارسته عربياً ويعتبره استكمالاً للتدمير، استكمالَ تدمير الذاكرة الذي قامت به حرب الإبادة على يد رأسمالية المقاولين المتوحشة. وهو أيضاً يفكّر في سورية التي تحتاج إلى من ينقذها من "إعادة الإعمار" إذا استفرد به الحكم الحالي وشركات المقاولات التركية، إذ لا مثيل للتخريب المعماري الذي قامت وتقوم به ذهنية المقاول في عدم احترامها التاريخ والذاكرة والهُوية المحلّية، لا سيما إن لم تضبطها القوانين. وتُمكن المقارنة بين بلد احتفظ بإرثه المعماري مثل إيطاليا وبلدان بدّدت إرثها المعماري مثل معظم بلدان العالم العربي، وجارتنا تركيا تنافسنا في هذا التبديد.
وعودة إلى غزّة، كيف نستعيد ذاكرتنا من الإبادة، كيف للذاكرة أن تساعدنا في بناء مدننا من جديد؟ كيف نُفشل كل ما قام به العدو من خلال إعمار مُنسَجِم مع الهوية والتاريخ والذاكرة والتضحيات؟ كيف نستعيد مفاهيم وممارسات العمارة البيئية في التخطيط والبناء؟ كيف ننقل هذه الأفكار من الكلام والأمنيات إلى الأرض؟ بأيّ وعي وأيّ أدوات وأيّ منظومة قانونية يُمكن تجسيد ذلك؟
صحيح أن همّ إسكان قرابة مليوني إنسان في غزّة هو المسيطر وأن ثمة من سيقول إننا بحاجة لحلول إعمار سريعة وإن الحديث عن عمارة بيئية هو ضرب من اليوتوبيا. ولكن حين ننظر إلى كل تجارب الشعوب في "إعادة الإعمار" بعد الحروب والكوارث الطبيعية، نجد أن المرحلي والمؤقت هو الدائم وأن البيوت المؤقتة هي التي ستسكن فيها أجيالٌ ستدفع ثمن هذا المؤقّت مِنْ صحّتها وعلى حساب حقّها في السكن الكريم، فالحق في السّكن ليس هو الحق في المأوى. "المأوى" بلا شروط غالباً ما يكون ضد كرامة وصحة ومستقبل الإنسان. ثم ما هو مشروع التحرّر إن لم يبدأ من العمارة؟ بعد احتلالي 1948 و1967، خرّبت "إسرائيل" العمارة الفلسطينية، فتك الإسمنت بالعمارة العربية وصارت محاكاة للعمارة الاستيطانية، فقد الريف الفلسطيني عمارته و"سناسله" الحجريةُ استُبدِلت بجدران إسمنتيه مقيتة. التلوّث الاسمنتي طاول شيء، تلوّثٌ يُكسى في أحسن حالاته بطبقة رقيقة من الحجر لاعتبارات شكلية. ومن قصور فكرنا التحرّري إهمال تحرير العمارة من الهيمنة الاستعمارية.
بقيت أصوات قلّة من المعماريين، عرباً وفلسطينيين، صرخات هائمة في البرية، لكنها مع هذا ملهِمة. هو الإلهام نفسه الذي نستمده من تجربة المعماري المصري حسن فتحي التي وإن جرى إفشالها؛ إلا أنها، بما هي فكرة، ما زالت حيّة وتنتظر سياسات حرّة قادرة على تجسيدها في الواقع.
نأمل ويأمل صديقنا (و"الصديقُ آخر هو أنت" بعبارة التوحيدي) أن يأخذ سؤال "إعادة الأعمار" حقّه من النقاش المجتمعي والفكري والثقافي وألّا يُترك للمقاولين والبيروقراطيين، بل إن للشعراء والفنانين كلمة ومساهمة في إعمار مدنهم، ولعل نزولهم إلى الأرض هو امتحان لمصداقية هذه الكلمة وهذه المساهمة.