أيام جبل الزيتون

أيام جبل الزيتون

16 أكتوبر 2020
قبة الصخرة من جبل الزيتون (Getty)
+ الخط -

الأحد 18 أكتوبر
الكاتب الهولندي

أراه جالساً على كرسيّه لا يبرح. منذ أسبوعين، يجلس على طاولة صغيرة، فوقها كتاب ولابتوب.

هل هو كاتب؟ سألتُ موظََّف الاستقبال، فلم يحر جواباً. قال إنه يأتي كل عام عامَين، ومعه زوجته. يمكثان حتى أعياد الميلاد، ثم يعودان لبلدهما.

قبل أيام، أراني ألبوم صُوَر له بلا صُوَر. فالصُّوَر مطبوعة على صفحات الألبوم كالكتاب. أراني صورةً مع مالك الفندق، الذي مرّ عام كامل على وفاته.

إنه مرِح وحيويّ. رغم شيخوخته المتقدّمة.

عملاق بعينين زرقاوين كالحبر السائل القديم. وكرشه قدّامه يخفيه بحدّ الطاولة.

كل يوم، بل كل وقت، أراه في جلسته المعهودة أمام حاسوبه الأبيض الصغير. حيناً يجلس على بوابة الفندق، وأحياناً في صالة الطعام.

لا بد أنه كاتب! هكذا هجست لنفسي؛ فالكتّاب متشابهون

لا بد أنه كاتب!

هكذا هجست لنفسي. فالكتّاب متشابهون، وعاداتهم تكاد تكون متقاربة.

اليوم صباحاً، بعد وجبة الفطور، سألته بإنكليزيتي البائسة: يو آر رايتر؟

ثم تدفّق الكلام، فعرفت، على وجه التقريب أنه كاتب، وأنّ له 33 مؤّلَفاً، في السياسة، وفي علاقة الدين بالمجتمع، وأشياء من هذا القبيل.

قام وأخذني إلى صاحب الفندق الابن، ليكون مترجماً بيننا.

أسأله ويجيب، ولا أُخفي إعجابي العالي بدأبه وحيويته واستغلاله لكل لحظة من الزمن.

أسأله، والفلسطيني المترجم يجد صعوبة في الترجمة إلى العربية، رغم وجوده في القدس من 20 سنة.

إنه هولندي. رجل في الخامسة والثمانين. مكبّ على التأليف كمن سيموت غداً. هكذا يقول للمترجم، والأخير يشرح لي.

رأى بعض كتبي، في يوم تال، وتمنّى لو أنني كتبتُ لها ملخّصاً بالإنكليزية، حتى يعرف من لا يتحدّث العربية، عمّا تدور.

قال: أكتب كتبي بالهولندية، وأُلحقها بملخّص بلغة شكسبير، كي يعرف من يجهل لغتي.

تحادثنا طويلاً، وكلّما حانت فرصة. وعرفت أنه مسيحي مؤمن. وأنّ الأحزاب الاشتراكية في هولندا تؤمن بالله. فليس شرطاً أن تكون شيوعياً أو اشتراكياً أو يسارياً في العموم وتكون ملحداً مثلاً. لقد تغيّر الزمن.

كان يشير لآرائي حول الأديان والإيمان، التي قلتها له في الحديث الأول. كان يشير بشيء من عدم الارتياح وربما الغضب... لم يفهم المترجمُ.

قال: أريد نسخة من أحد كتبك، كهدية؟ سيسعدني أن تكون في مكتبتي لغة تُقرأ من اليمين لليسار.

قلت: سأتدبّر ذلك.

وبعدها شرح لي أنه يكتب في عدّة صحف مشهورة في هولندا، ويرسل لهم المادة من هنا، فتُنشَر بعد أيام.

ثم انشغلتُ عنه، ولم أنتبه لغيابه، حتى قيل لي: سافر قبل يومين وسأل عنك.

شعرتُ بتبكيت صغير.

لقد أهدى إلي كتابَين من كتبه، وأمّا أنا: فلم أفِ بالوعد!


■ ■ ■


الاثنين 19 

دليلي

وحيداً أذهب لزيارة كنيسة القيامة. ثمّة مئات الحُجّاج في الساحة على بابها. حجّاج غربيّون وروس، وقلّة من المسيحيين المحلّيين. أتأمّل الجدران الخارجية في الواجهة. وألاحظ اصفرار الحجر الصخري من القِدم.

هناك سُلّم حديدي مركون على الحيط. أدخل وتفاجئني شدّة الزحام. الناس يصعدون على درج صخري ضيّق، ولا تكاد تستطيع التنفّس. أصعد معهم بغريزة القطيع. تُرى: على ماذا يتزاحمون؟ أصعد مخنوقاً بمزيج من روائح العرق والبخور والعطور الثقيلة.

رجال ونساء وصبايا وشيوخ وحتى أطفال من الجنسين.

المكان معتم ومحصور، باتساع غرفتين فقط. ويؤلم عينيّ بريقُ فلاشات التصوير الخاطف. كلّهم أجانب. وهنا تسمع لغات برج بابل كلّها.

في الخامسة والثمانين، مكبّ على التأليف كمن سيموت غداً

لا أحد معي ليكون دليلي. وحتى اليافطات المكتوبة، مكتوبة بغير العربية.

أجهل كل شيء تقريباً عن المكان. لكن جهلي لا يطول. فحين نزلت واستوقفتني مناظر الحجّاج الراكعين على القبر الأول، انتبهت لصديقي وليم، وهو يجلس منحنياً ويقبّل البلاطة، مثل الباقين.

- أبا جورج! وينك يا رجل؟ ناديت عليه، وكنت أتحرّج من إمكانية مرافقته لزوجته أو قريباته.

يأتيني هاشّاً.

نتصافح، وأقول له: الله بعثك من السماء. أريدك اليوم دليلي.

أضع ذراعي في ذراعه، ونمرّ في جولة على معظم أنحاء الكنيسة التاريخية.

نقف أمام كل ركن، ويشرح أبو جورج. فوق صُلب المسيح...، هنا حدث كذا، هناك كيت. ثم ننزل درجات كثيرة، فنرى قبراً عليه شموع.

- لمن هذا؟

- لا أعرف.

نقف وأراقب السيّاح. أغلبهم في هذا الركن من الشباب، وكلّ في يده صاحبته أو زوجته. ألاحظ كثرة الروس، فأنا أميزهم من لغتهم ومن جمالهم ذي الطراز الخاص.

أقول لأبي جورج: اليوم يوم الروس!

يقول: وغداً أيضاً. المستقبل كلّه لهم في القدس. فهم الآن أكثر المسيحيين عدداً في فلسطين.

أستغرب: كيف؟

يقول إنّ حوالي 70 إلى 75% من المليون روسي الذين وصلوا إلى "إسرائيل" كـ "مهاجرين جدد" (أيام المجرم شارون وبعده وقبله) هم مسيحيون روس وليسوا يهوداً. وعليه فإنّ هؤلاء يأتون للقدس ويحجّون ويمارسون كافة تقاليدهم الدينية، وبذا فهم الأكثر عدداً. أقول له وغصّة في روحي: أتعرف يا صديقي وليم: كان مسيحيّو فلسطين إلى العشر سنوات الأولى من القرن الماضي، يشكّلون ما نسبته 20 % من إجمالي السكان. فانظر إلى كم وصل عددكم الآن. 

يقول: وصلت النسبة إلى أقل من 2 %. وكلّ يوم تتناقص.

- أخاف عليكم من الانقراض.

يصفن أبو جورج، ثم نلفّ وندور وأصوّر بكاميرا جمال عشرات المناظر. تستوقفني لوحة معدنية منحوت عليها المسيح والعذراء، وحولها كراس خشبية [دكك] يجلس فوقها عشرات الحجاج الإيطاليين والفرنسيين.

النحت رائع ومدهش، فهو غاية في الفن. لكنني أخرج للأسف دون معرفتي باسم الفنان العالمي الذي أبدعه.

يأخذني أبو جورج في جولة على السوق. أشتري 3 غليونات رخيصة، وأُعجب بواحد لكنّ سعره يصدمني: 500 شيكل!

نمرّ عن محلات تبيع كل شيء: من الجلود الطبيعية إلى الملابس، ومن الذهب إلى حقائب السفر، ومن التحف إلى الأحذية. ومن المشغولات الخشبية إلى محلات العصير. كل شيء موجود هنا، إنما حذار من الأسعار، وحذار من تصديق التجار. لا بد أن تساوم وتتقن فن المساومة، مع أنهم يراعونك عندما تكون "ابن بلد".

أتسوّق فأشتري أغراضاً بـ 800 شيكل. شنطتين جلديتين للمدارس بـ 350 شيكل، وزوج أحذية خليليا بـ 100 شيكل، ومعطفيْن جلديين بـ 360 شيكل، ورطل قطّين بـ 25 شيكل، ثم أودّع صديقي في باب العمود، وأعود للفندق.

أبو جورج، غزاوي يقيم في القدس منذ 15عاماً. يقول إنه طوال هذه المدّة لم يخرج بصديق واحد حقيقي هنا. أين غزّة وطيبة ودفء أهل غزة! 


■ ■ ■


الأحد 25 أكتوبر

المعدة!

تعودني آلام المعدة الفظيعة. أتناول لقمتين على الفطور وألحق بأخي الذي سبقني كي يأخذ دوراً. أصل إلى المستشفى بحال سيئ. أجلس في الشمس، فما بي هو نتيجة اللخبطة في الأكل والتعرّض لبرد شديد.

إذ منذ ثلاث ليال ونحن نسهر على بلكونة الفندق في آخر طابق، وقد كانت لياليَ شديدة حركة الهواء والبرد.

أشعر بغثيان وغازات في معدتي. أمشي وألفّ في الجنينة الخلفية، بلا تحسن. كلما أخرجت الهواء من معدتي خف الألم الذي يضرب في ظهري وعمودي الفقري كمنشار. خفّ لكنه سرعان ما عاد.

لا مفرّ. أنزل وأشتري "فومودين أربعين" إسرائيلي. إنه بسعر "الفومودين" المصري بغزة.

آخذ حبة وأنتظر.

بعد ربع ساعة يُخبروننا بتعطُّل ماكينة الإشعاع، وأن لا جلسات اليوم.

أنتهزها فرصةً وأعود مع أخي إلى الفندق. ما إن أصل الغرفة 203 حتى أدخل الحمام، وأحاول التقيؤ. لا راحة إلا به. وأخيراً بعد جهد ودموع أتقيّأ لمرة واحدة وأرتاح.

يملأ جبيني العرق. أغتسل بالصابون، وألقي بجثتي على الفراش وأنام.

يذهب أخي لصديقه أبو إبراهيم، ويتركني، مؤكّداً على ضرورة إغلاق باب الغرفة من الداخل، فأومئ برأسي، ثم... لا أدري شيئاً.

أستيقظ مع أذان العصر. ياه! من 10 صباحاً إلى هذا الوقت!

أقوم وآخذ حبة فومودين وآكل بضع لقيمات، ثم ألبس كل ما لديّ من ملابس فوقية دافئة.

البرد سبب كل علّة. وبالأخص علّة المعدة.

تمضي الأمور، بقية الليلة، على خير. حتى أنني سهرت وأخذت بضع صور عبر كاميرا صديقي محمود، النزيل الجديد.

أنام في التاسعة، وأتركهم يلعبون الطرنيب، ولا أستيقظ إلّا في السابعة والربع صباحاً.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا، والنص حول تجربته في عام 2009

المساهمون