أمل دنقل.. ما زال يقول "لا" في وجه من قالوا "نعم"

أمل دنقل.. ما زال يقول "لا" في وجه من قالوا "نعم"

23 يونيو 2021
"لا تصالح" في غرافيتي بالقاهرة، تصوير: حسام الحملاوي، تشرين الثاني/ نوفمبر 2011
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثالث والعشرين من يونيو/ حزيران، ذكرى ميلاد الشاعر المصري أمل دنقل (1940 - 1983).

 

على مسرح واحد، هو شعر أمل دنقل، يَظهر المتنبّي وأبو نواس والزير سالم والحسين وسبارتاكوس وصلاح الدين وزرقاء اليمامة وغيرهم. يَظهر هؤلاء ليس بسيَرهم المعروفة بشكل دقيق، ولا هُم ينزعونها عنهم تماماً، بل ليلعبوا أدواراً معيّنة بدقة شديدة في مشهد واحد ثم يتركون الخشبة لشخصية أخرى في "قصيدة" أخرى.

ورغم أنّنا لسنا حيال نصوص فكرية، فإن هذه الشخصيات تبدو مبنية لتكون "شخصيات مفهومية"، تساعد في تمرير الأفكار والمواقف، وهي أداةُ صنعةٍ يعتمدها الفلاسفة عادةً كما رأى بذلك المفكّر الفرنسي جيل دولوز حين نظّر للشخصيات المفهومية، ووجد أنّ فكر أفلاطون ما كان ممكناً أن يبلغ مداه لولا البناء الدقيق لشخصية سقراط، وكذلك فعل نيتشه مع زرادشت، كما يكمن لبعض الشخصيات التي اختُلقت في سياقات غير فكرية، ضمن الرواية أو المسرح، أن تأخذ هالة مفهومية، وهو ما نقف عليه مع شخصية فاوست لـ غوته، وهاملت لـ شكسبير. وربما ذلك حال الشخصيات التي اقترحها أمل دنقل، فلعلّه لم يكن يبحث عن هذا البُعد وهو يشكّلها ضمن قصائده، لكن ها هي تبدو كشخصيات مفهومية بامتياز.

لنقرأ مثلاً ما كتب عشية هزيمة 1967 في قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة": 
"أيّتها النبية المقدّسة...
لا تسكتي... فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَة...
(...)
أيتها العَّرافة المقدّسة...
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ...
فاتّهموا عينيكِ، يا زرقاءُ، بالبوارْ!
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجارْ...
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثارْ!
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا...
والتمسوا النجاةَ والفرارْ!".

بعبارة حديثة - لا يمكن أن تسوقها اللغة الشعرية وإلّا بطُل مفعولها - تلعب زرقاء اليمامة دورها في هذه الوضعية الدرامية التي يقترحها دنقل بوصفها مثقّفاً جرى تكميمه. وسواء كان هذا المثقّف مفكّراً أو شاعراً أو روائياً، فهو يبدو وقد فقد صوته، وبالتالي مساهمته ضمن التقسيم الاجتماعي للعمل، أي دوره في إنتاج تلك الرؤية النظرية أو الفنية التي تتيح كشف عيوب كثيرة.

يبدو ديوان أمل دنقل مثل تاريخ موازٍ للتراث العربي

ومن ثمّ يبيّن صاحب "أوراق الغرفة 8" مآلات ذلك التكميم، بشكل فاجع، ملمّحاً إلى تكرار نفس اللعبة الخاسرة منذ قرون، ولنا أن نمدّد أبعاد لوحته لنجد أن تكميم زرقاء اليمامة ما زال مستمراً، حين يُمنَع المثقّفون من أداء أدوارهم، عبر طيف واسع من أشكال المنع، حتى إنّ بعضهم يفضّل ألّا يلعب دوره أصلاً، معتبِراً من مصير زرقاء اليمامة بالذات، أمّا الأخطر، فهو أن يفقد المثقف قدرته على النظر والتنظير. بعبارة أخرى، تفقد زرقاء اليمامة القدرة على لعب دورها.

مصيرٌ فاجع آخر للمثقّف تقترحه قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة". ها نحن أمام مشهدِ مآلاتِ الفعل الثوري على مستويين؛ مستوى الواقع ومستوى الإرادة، وقد جمعها الشاعر المصري في مقطع واحد، يقول فيه:
"معلّقٌ أنا على مشانق الصباح
وجبهتي - بالموت - محنيّة
لأنّني لم أحنها... حيّة".

ذلك الاعتقاد بأنّ سبب الحياة هو عدم الانحناء هو ما يحوّل سبارتاكوس إلى شخصية مفهومية، حيث يحمل على جسده فكرتَه بمنطلقاتها ومخرجاتها وتداخلها، بما ينجرّ عن احتكاكها بالواقع، فهي تغيّره رغم الخسائر المرئية.

في هذه القصيدة، أتى أمل دنقل بشخصية مفهومية أخرى، الشيطان، وقرَنها بسبارتاكوس، ولننتبه إلى أنّ الأخير شخصية أنصفتها الكتابة التاريخية إلى حدّ كبير وباتت تغدق عليها بملامح البطولة والتمجيد، أمّا قرينها داخل النص الشعري فإنه يختزل كلّ شرور العالم وقبحه، فكيف جمعتهما نفس القصيدة؟

يمرّر دنقل ذلك بما يُعرف بـ"قانون شوبنهاور"، ومفاده أن ظهور الجديد، أي كلّ ما يصبو إلى تغيير الواقع، يمرّ بثلاث محطّات: أولاها التشويه، عبر التتفيه أو التهويل، أو لنقل الشيطنة إذا أردنا البقاء في معجم قريب من نصّ دنقل، وثانيتها مرحلة الصراع، حين يجري وصم الرؤية الجديدة للعالم باعتبارها الخطر الأكبر (أيضاً صفة من صفات الشيطان)، لكنّ الفكرة الجديدة تنتهي في المحطة الثالثة إلى مرحلة التعايش، وهو ما يفضي إلى تحوّلها إلى جزء لا يتجزّأ من الواقع. فهذا سبارتاكوس، الذي بات صفحة مضيئة من تاريخ روما والبشرية قاطبة، قد كان "شيطان" زمنه، فكأنّ دنقل يؤكّد على معاصريه بألّا يغترّوا بمَن يُشيطن، فلعلّ في ما يطرحه إشارات نحو التحرّر والتنوير. يقول أمل دنقل:
"المجد للشيطان... معبود الرياح
مَن قال "لا" في وجه من قالوا "نعمْ"
من علّم الإنسان تمزيق العدمْ
وقال "لا"... فلم يمتْ
وظلّ روحاً أبديّة الألمْ!".

كان أمل دنقل - وهنا يتجلّى وجٌه أساسي من جرأة نصّه - لا يهتمّ بالمتّفق عليه اجتماعياً ودينياً. يقلب هنا صورة الشيطان فيمجّده، من دون أن نعثر على تجديف ما إن نحتكم إلى النص، وليس إلى القراءة الخارجية المسقطة. ومن هنا يشير دنقل إلى واحدة من أدوات الفن الشعري، وهي الترابط المنطقي للقطعة الواحدة. وسنجد نفس لعبة القلب بين الصورة المتّفق عليها والصورة التي يؤسّسها الشعر في قصيدة "مقابلة خاصة مع ابن نوح":
"جاءَ طوفانُ نوح
هاهمُ "الحكماءُ" يفرّونَ نحوَ السَّفينة
المغنونَ، سائس خيل الأمير، المرابونَ، قاضي القضاةِ ومملوكُهُ
حاملُ السيفُ، راقصةُ المعبدِ
(ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ)
جباةُ الضرائبِ، مستوردو شَحناتِ السّلاحِ،
عشيقُ الأميرةِ في سمْتِه الأنثوي الصَّبوحْ!
جاءَ طوفان نوحْ.
ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينة.
بينما كُنتُ...
كانَ شبابُ المدينة
يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوح
ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين.
ويستبقونَ الزمنْ
يبتنونَ سُدود الحجارةِ
عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضارة
علَّهم يُنقذونَ... الوطنْ!
صاحَ بي سيدُ الفُلكِ - قبل حُلولِ السَّكينة:
"انجُ من بلدٍ... لمْ تعدْ فيهِ روح!".
قلتُ:
طوبى لمن طعِموا خُبزه...
في الزمانِ الحسنْ
وأداروا له الظَّهرَ
يوم المِحَنْ!
ولنا المجدُ - نحنُ الذينَ وقَفْنا
(وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!)
نتحدى الدَّمارْ...
ونأوي إلى جبلٍ لا يموت
(يسمونَه الشَّعب!)
نأبي الفرارْ...
ونأبي النُزوحْ!
كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ
كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ
يرقدُ - الآن - فوقَ بقايا المدينة
وردةً من عَطنْ
هادئاً...
بعد أن قالَ "لا" للسفينة
... وأحب الوطن!".

هكذا - في قصيدة - يتحوّل ابن نوح المنبوذ في كلّ السرديات إلى بطل ما إن يقترح الشاعر قواعد لعبة مختلفة. وحده حُسن البناء السردي والشعري يستطيع أن يصنع مثل هذا الانقلاب. يكفي أن يختلق الشعر أفقاً جديداً حتى تتداعى القوانين المعروفة، ولنلاحظ أنّ أمل دنقل يستفيد من نفس ملامح شخصية ابن نوح ولا يقوّلها من عندياته شيئاً كثيراً، هو يقترح لنا منطقاً جديداً للعالم فيضعه في مقام آخر.

يعمل بعض شعره كمضاد حيوي للمشاريع الانهزامية

بنفس لعبة الانقلابات هذه، حوّل صاحب قصيدة "الطيور" المتنبّي إلى شخصية ثورية. لقد كان يحتاج من أبي الطيّب أن يلعب هذا الدور على خشبة قصيدته ليقول شيئاً عن مصر القرن العشرين خلال منعطف "السلام مع العدو" بمفردات عتيقة من مصر القرن العاشر، فإذا بالمتنبي يُنشد قائلاً:
"عيد بأية حال عدت يا عيدُ
بما مضى أم لأرضي فيك تهويدُ
نامت نواطير مصر عن عساكرها
وحاربت بدلاً منها الأناشيد".

أمّا أبو نواس، فيُنطقه أمل دنقل في قصيدة أخرى بهواجس المواطن العربي المعاصر. نرى كيف أنّ الشاعر، وقد هضم التاريخ الأدبي، قد أخرج من كلّ شخصية جوهراً تخفيه الصور النمطية. ليس اعتباطاً أن يختار دنقل شخصية أبي نواس، ذلك الماجن - في صورته ضمن التاريخ الأدبي - والذي يمكن أن نعدّه مجرّد مُقبل على الحياة وملذّاتها أو باحث عن الحرية حين نريد أن ننأى بأنفسنا عن الأحكام الأخلاقية. وقتها سيصبح أبو نواس شخصية مفهومية تعمل على إعادة كلّ شيء إلى الحسّ السليم بعدما غرقت المجتمعات في بحر من التزييفات. يقول:
"لا تسألني إن كان القرآن
مخلوقاً أو أزليّ
بل سَلني إن كان السلطان
لصّاً... أو نصف نبيّ".

هكذا يبدو "ديوان" أمل دنقل مثل تاريخ مضادّ للتراث العربي. لقد جعل صلصالَه مجموعةً من الشخصيات أعاد ترتيبها وفق منطق جديد. وقد بلغت هذه اللعبة مداها في قصيدة "لا تُصالح" حين أعاد تركيب أحداث حرب البسوس على مقاس سياقات سبعينيات القرن الماضي، ثم باتت ــ نظراً لمتانة العلاقات بين العناصر المكوّنة للقصيدة ــ قابلة للتصريف في ما هو أبعد. باتت بعض كلمات هذه القصيدة مثل مضادّ حيوي لمشاريع الخنوع التي يقترحها الساسة العرب على شعوبهم:
"لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهبْ
أتُرى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل تَرى؟
هي أشياء لا تشترى
(...)
لا تصالح على الدم... حتى بدمْ!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟
أعيناه عينا أخيك؟
وهل تتساوى يدٌ سيفُها كان لكْ
بيدٍ سيفها أثْكَلكْ؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم...
جئناك. كن - يا أمير - الحكَمْ
سيقولون:
ها نحن أبناء عمْ.
قل لهم إنّهم لم يراعوا العمومة في مَنْ هلك".

يتخيّل دنقل وصية كليب إلى أخيه المهلهل فيخترع سياقاً وشحنة معنوية وكلماتٍ لها أثر في النفوس أعمق من معظم ما كُتب ضمن أدب المقاومة عربياً. قليلةٌ جداً هي القصائد التي ما زالت، على مدى عقود، تلعب الدور الذي تلعبه "لا تُصالح" وها نحن حين نتلوها اليوم كأنها تتحدّث عن أيامنا. تلكِ هي القيمة المضافة للشاعر، والتي لا ينبغي للمجتمعات أن تهدرها، فأيُّ معنىً في أن تعاد مأساة زرقاء اليمامة كلّ جيل؟

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون