Skip to main content
أليخاندرو زامبرا.. عندما يكون الشِّعر بطلَ الرواية
جعفر العلوني
أليخاندرو زامبرا

"أنا شاعرٌ فاشل. قد يرغب جميع الروائيين في كتابة الشِّعر أوَّلاً، غير أنَّهم حينما يرون أنَّهم لا يستطيعون ذلك، يحاولون كتابة القصص القصيرة، وهو النوع الأكثر تطلّباً بعد الشِّعر. وإذا ما فشلوا في ذلك أيضاً، حينها فقط يبدؤون كتابة الروايات". قد يكون ما يقوله وليام فوكنر عن نفسه مدخلاً مناسباً للحديث عن الرِّوائيِّ أليخاندرو زامبرا (مولود في سانتياغو دي تشيلي، عام 1975) وروايته الأخيرة "شاعرٌ من تشيلي" (منشورات Anagrama)، التي يتناول فيها أسطورة الشِّعر التشيليِّ، عبر سرد حياة كلٍّ من غونزالو وفيسينتي، وهما شاعران - أحدهما فاشلٌ والآخر في طور النموّ - يؤكِّدان عبر مغامراتهما الصغيرة وأخطاء الحبِّ مقولة الشاعر التشيليّ نيكانور بارا، بأنَّ "الشعراء قد نزلوا من جبل الأولمب، وغدا الشَّاعرُ اليومَ رجلاً مثل أيِّ رجل آخرَ".

يركِّز أليخاندرو زامبرا ــ الذي، وللدهشة، بدأ مسيرته الإبداعيَّة في كتابة الشِّعر ثمَّ تحوَّل إلى القصَّة القصيرة، لينتهيَ به الأمرُ إلى كتابة الرواية ــ على ثلاث لحظات مختلفة من زمن الرواية، هي بداية التسعينيَّات، والعقد الأوَّل من القرن الحادي والعشرين، والسنوات الأخيرة، كي يرويَ علاقة غونزالو وكارلا. انفصل الأخيران في سنِّ المراهقة بعد علاقة جنسيَّة مخيّبة للآمال، وعادا ليلتقيا، مصادفةً، بعد عشر سنوات، ويستأنفا علاقة حبِّهما. في هذا الزمن الثاني من الرواية ومن العلاقة على حدٍّ سواء، تدخل شخصيَّةٌ ثالثة إلى المشهد: فيسينتي، ابن كارلا الصغير، الذي سيرث حبّه وشغفه للشِّعر، بطريقةٍ أو بأخرى، من غونزالو، الذي يربِّي الفتى كما لو كان ابنَه حقّاً، حتَّى انفصال جديدٍ مع والدته.

هنا تحديداً، يبدأ زمن الرواية الثالث، عندما يبلغ فيسينتي سنَّ الثامنة عشرة، ويشرع في كتابة قصائده الأولى. يدخل الجامعةَ ويتعرَّف إلى فتاة أجنبيَّة (برو)، قادمة من الولايات المتّحدة، ستأخذ دور البطولة في نهاية الحبكة. تسافر برو إلى تشيلي في محاولة للشفاء من خيبة أمل الحبِّ، فتنغمس في إعداد بحثٍ لمجلَّة نيويوركيَّة تتناول فيه المشهد الشعريَّ الجديد في البلد. تتعرَّف برو إلى فيسينتي وتبدأ بينهما علاقة حبٍّ سرعان ما تتحوَّل إلى صداقة. تتعقَّد الأمور بينهما فيتواصل الشَّاعر الصغير، فيسينتي، مع غونزالو، وهنا يأتي دور البطل الرئيس في الرواية: الشِّعر.

يخصِّص زامبرا جزءاً كبيراً من الرواية ليُنظِّر حول الشِّعر

يخصِّص زامبرا جزءاً كبيراً من الرواية ليُنظِّر حول الشِّعر، مناقشاً قضاياه، ولا سيَّما إذا ما أخذنا في الحسبان أنَّ الشِّعرَ في تشيلي أشبه برياضة وطنيَّة، حسب تعبير إحدى الشخصيَّات - ثقيلة الدَّم - في الرواية. تقول هذه الشخصيّة: "نحن أبطال الشِّعر في العالم مرَّتين"، في إشارة إلى نيل تشيليّين اثنين، هما غابرييلا ميسترال وبابلو نيرودا، "جائزةَ نوبل في الآداب". يعكس زامبرا حركيَّة مجتمع الشعراء بطريقة فكاهيَّة، متحدِّثاً عن شعراء حقيقيين تارةً ومتخيَّلين تارةً أخرى، ويحاول من خلالهم تناول أسطورة الشِّعر في بلده، تلك الأسطورة التي تشكِّك فيها برو بعد أن تعرَّفت إلى نماذجَ شعراء محتالين، تافهين، ومراوغين إلى حدٍّ ما في مجتمعٍ مكثَّفٍ من أبطال الأدب والدجَّالين.

ضمن هذا السياق، تتلاقى اهتمامات المؤلِّف المعتادة مع الرَّائج، ومع ما يريد أن يثيره عن الشِّعر الأصيل، وعن الجودة الصافية للشِّعر المُعترَف به على هذا النحو، عبر اقتباساتٍ من كتّاب وشعراء معروفين (روبرتو بولانيو، نيكانور بارا، راؤول زوريتا، نيرودا وغيرهم، مثالاً لا حصراً) وآخرين محلِّيين ستتم مناقشتها عبر لقاءات صحافيَّة تجريها برو معهم في خيارٍ ليس بريئاً من طرَف الكاتب، بما أنَّ أحد سكَّان نيويورك هو الباب الذي يفتح آفاق العالميَّة أمام مجتمع الشعراء التشيليين الصاخب. نيويورك هي الخارج الذي يسمح بتعريف المحليِّ في بعض اللحظات الحاسمة.

الصورة

وإلى جانب الشِّعر، وقضاياه، يغمر زامبرا نفسه أيضاً في معالجة موضوعات عدَّة في متن الرواية، كهشاشة العلاقات الإنسانيَّة أو الرابطة التي قد تجمع بين الأب والابن، أو حالة زوج الأمِّ أو مفهوم الأسرة. كما أنَّه يقترح صورة نقديَّة لمَراجع الذكورة القديمة، وانعدام الثقة السائد ما بين المؤسَّسة والسلطة، والمواطن والمثقَّف، والرغبة والشجاعة العنيدة في الانتماء إلى مجتمع خياليٍّ جزئيّاً، ناهيك عن شعور الحاجة إلى القراءة والكتابة في عالم يبدو أنَّه ينهار بأقصى سرعة. كلُّ هذا يناقشه أبطال الرواية تارةً على ألسنتهم، وتارةً أخرى على لسان صاحب العمل، لينوِّع الكاتب في السرد بين أنا الراوي وأنا الشخصيَّة المتحدِّثة.

إتقانٌ لغويّ ونثر شِعريّ فريد، ممزوج بخفَّة دم وأسلوب سَلِس 

يكشف زامبرا، انطلاقاً من هذا السياق، عن قدرة خياليَّة عالية على تأليف القصص التي، إلى جانب محتواها، تُظهر إتقاناً لغويّاً ونثراً شِعريّاً فريداً، ناهيك عن خفَّة الدم والأسلوب السلس الذي يسهِّل قراءة رواية بحجم 400 صفحة. "لطالما بدا الشِّعر بالنسبة إلينا في تشيلي قدَراً ممكناً مرتبطاً بالجدارة، ذلك أنَّ جزءاً كبيراً من الشعراء التشيليين الكبار، وغابرييلا ميسترال منهم طبعاً، لم ينحدر من طبقات متميِّزة. من هنا تحديداً أردتُ أن أبدأ، من المحلّي، الذي له وجهان: واحدٌ مُغرٍ والآخر مُميتٌ وخانق. لقد أثارتني الرغبة الأدبيَّة، لأنَّ مجتمع الشعراء يدور في فلك قوَّة لا يمكن فهمها: فلا توجد أموال كثيرة تحرِّكه، ويكاد يكون الصراع فيه رمزيّاً على نحو كامل. ضمن هذا الإطار تأتي رواية "شاعر من تشيلي"؛ أي في إطار النقد الذاتيِّ والتعاطف والكوميديا أيضاً، لأنَّني أشعر أنَّني جزءٌ من الشِّعر التشيليِّ، ويعود ذلك إلى أنَّني ما زلت أكتب الشِّعرَ، وأعتقد أنَّني سأتجرَّأ في وقت ما على نشر قصائدي"، يقول زامبرا في حديثٍ عن الرواية وعن سبب تأليفها. 

يسير زامبرا في راويته هذه على طريق رُواة القصص الذين وجدوا في الشِّعر هوَسهم الأوَّل: سرفانتس، فوكنر، خوليو كورتاثار وجيمس جويس، بطريقة أو بأخرى. هذه الرواية هي انعكاس لذلك الشيء عينه: الحماس، والالتزام بالشِّعر. إنّها، في الوقت نفسه، قصَّة أسرة مفكَّكة تعيد بصعوبة لمَّ شملها. مرَّة أخرى، يقدِّم أليخاندرو زامبرا درساً في الشِّعر، في الحياة، في الواقع، في الأحلام والإحباطات.


* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا

المزيد في ثقافة