ألكسندر خِنجري.. معجم يصوّر العربية في لحظة تحوّل

ألكسندر خِنجري.. معجمٌ يصوّر العربية في لحظة تحوّل

19 مارس 2022
ألكسندر خِنجريّ في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

تقلّب ألكسندر خِنجريّ بين غوائِل السّياسة وملاذّ الرّئاسة، واغترف من معين البحث اللغوي في تمكُّنٍ نادر من الألسن الشرقيّة والفرنسيّة: فقد وُلد هذا المستشرق اليوناني (1759 ــ 1854) في إسطنبول، في عائلة ميسورة، ذات علمٍ وجاهٍ، كانت تعيش، ضمن الجالية اليونانيّة، في عاصمة الدولة العثمانيّة منذ أجيال عديدة. وتعود قصة لقبِه، ذي الأصول العربية، إلى أنّ جدّه الأعلى كان طبيباً حاذقاً، وهو الذي عالج السلطان العثمانيّ محمد الرّابع حتى شُفيَ من داء عضالٍ، فكان أن أهداه خِنجراً مُرصّعاً بِالماس، فَنُسِب إليه وصار يُعرف به، وبقيت هذه النسبة في عَقبِه، بَعد أن حُوِّرت قليلاً حَسب النطق التركيّ للكلمة بإبدال الخاء هاءً، ليُعرَف باسم "هنجرلي".

وقد أتاحت له نشأته العلمية إتقانَ العربيّة والتركيّة والفارسيّة، فضلاً عن الروسيّة والفرنسيّة، ما أهّله للعَمل "ترجماناً" في القوّات البحريّة العثمانية، ثم عُيّن بعدها "هَسبدار" في مولدافيا، وهي رتبة تقرب إلى وظيفة الإمارة التي كان الباب العالي يَمنحها لحُكّام الولايات والمقاطعات البعيدة، مقابلَ الولاء، وإنْ رمزيّاً، لسلطة الخلافة. وقد تولّى بالفعل إمارة مولدافيا، إلّا أنّ ولايَتَه لم تَطل بسبب الاحتلال الروسي لها، فعاد إلى إسطنبول سنة 1807.

ثمّ هاجر ليستقرّ في موسكو سنة 1821 على إثر تمرّد اليونانيين بإسطنبول، بعد أن صارت الجالية اليونانية مهدّدة، ولم تعد في مأمنٍ، فقد سبق أن اغتيل العديد من أفراد أسرته (مثل أخيه ميشال) ووُجّهت إليهم اتهامات بالخيانة. وهناك، أصدر قاموساً رباعيّ اللغات (بعنوان "قاموس فرنسي عربي فارسي وتركي")، وهذا من نوادر التأليف المعجمي، حيث صنّف فيه مفردات الفنون ومصطلحات العلوم في لغاتٍ هي الفرنسية ــ وهي التي جعلها أصلاً بنى عليه سائر مداخل الكتاب، ورتّبها حسب النسق الألفبائي لهذا اللسان ــ والعربية، والفارسية، والتركية. 

يعكس قاموسه تطوّر الضاد في فترة توسّع الدولة العثمانية

وحَريّ بنا أن نُذكّر هنا بأنّ هذا المعجم صيغَ استجابةً لطلب توجّه به السفير الفرنسي في موسكو آنذاك، لثقته بعلم الرجل وكفاءته، ثم لاستغلاله ربما في معرفة المفردات الحضارية الدالّة على سائر أصناف المعاملات الاقتصاديّة والسياسيّة التي نشطت حينها بين السلطنة العثمانية وفرنسا، وكذلك في الجزائر التي احتلّتها فرنسا سنة 1830. وكان قد طُبع وقتها على نفقة القيصر الروسي. وكان خِنجريّ يذكرُ، بعد ذلك، المقابل العربي أوّلاً، ثم الفارسي وينتهي بالتركي (في صيغته العثمانية). 

هذا، ولا ينبغي أن يخدعنا الرأي القائل إن هذه العملية في متناول اليد، بحُكم التقارب الواضح بين كلمات اللغات الشرقية الثلاث، إذ تحتوي هذه الألسن على العديد من المفردات المتماهية شكلاً والمختلفة معنىً تماماً، مثل لفظة: "أمين" التي لا تفيد ذات المعنى البتة في هذه اللغات، وهو ما اقتضى منه مجهوداتٍ جبّارة في التحقيق والتثبّت والجمع والاستقصاء والإكثار من الأمثلة وذكر العبارات الجاهزة التي كانت سائدة في تلك الحقبة المفصلية. كما أكثر من إيراد الاستخدامات التداولية والسياقية للكلمات الفرنسيّة، غالباً ضمن تراكيب مسكوكة، ما يجعل منه أقرب إلى قاموس عباراتٍ منه إلى قاموس ألفاظٍ.

وهكذا، عكسَ هذا القاموس الفريد طوراً مخصوصاً من أطوار تحوّلات الضاد التي بدأت تَشهدها بسبب منطق التوسّع الإمبراطوري والتّوالد المتسارع للمصطلحات في الحقل الإداري والسياسي وحتى الاقتصادي الذي هيمن على الولايات العثمانيّة في تعاملها فيما بينها، ثمّ في احتكاكها بدول العالم الرأسمالي الذي بدأت دواليبه تدور بسرعةٍ. وقد تضمّن الكتاب كلّ المقابلات بالخَط العربي المستخدم آنذاك في كلّ من الفارسية والتركية القديمة أي: العثمانية، بعدما أشاح المُؤلّف عن فكرة الرسم الفونيتيكي (الصوتي) للكلمات، مع أنه كان شائعاً في ذلك العصر، إذ استخدمَه بعض مُعاصريه.

الصورة
معجم ألسكندر خنجري

ويمكن هذا الكتاب أن يكون مصدراً رئيساً وثريّاً لدراسة اللغة العثمانية والفارسية في أثناء القرن التاسع عشر وفَحْص ما انعقد بينهما من صلات التفاعل والاقتراض والتحاور التي عقدتها مع العربيّة، مع رصْد التحوّلات الدلاليّة والصوتية التي طرأت على الكلم، حيث إنّ كلّ لغة أضافت لواحقَ وسوابقَ من أجل استيعاب الكمّ الهائل من العبارات ذات الأصل العربيّ عموماً، والتي صيغت ترجمةً لمقابلاتها من اللسان الفرنسي وما تضمّنه من الصور والمجازات والمصْطَلحات والتراكيب.

وقد تميّز هذا المعجم أيضاً (وربما هذا ما يفسّر حَجمه الكبير الواقع في ثلاثة مُجلّدات والمدّة الطويلة التي استغرَقها إنجازه، إذ امتدّ من 1806 إلى 1841) بالتركيز على العبارات الجاهزة والاستعارات الحادثة، فلم يكتفِ خِنجريّ بوضع المفردات المقابلة، كما تفعله بعض المعاجم الكسولة، بل توسّع في إيراد الشواهد والتآليف المجازية التي كانت سائدة في اللسان الفرنسي آنذاك، وبعضها تقادَم وأصابَه البلى، ما يرشّح هذا المعجم لأنْ يكون وثيقةً تاريخية نادرة تساعد على استقصاء ما عرفته اللغة من تحوّلات في المعنى وما شهدته من تعالقاتٍ بين الألفاظ والحروف العاملة فيها. 

كذلك فإنه يتضمّن الكثير من المفردات الإداريّة الفتيّة التي ظهرت في فرنسا إثر الثورة الفرنسية وما أعقبها من تقلّبات السياسة وعنف الصراع في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، التي نقلها خِنجريّ بحُكم عمله ترجماناً للباب العالي في إسطنبول، ينقل الوثائق الرسمية، وهو ما يجعل من هذا المعجم وثيقة نفيسة عن تلك الحقبة التي انفتحت فيها الضاد على لغة القانون الوضعي وعلى مفاهيم التنظيم العقلاني للإدارة ودواليب الدولة، فضلاً عن تسارع وتيرة العلاقات الدبلوماسيّة ونشأة مفرداتها الحديثة التي لم تكن في لغتنا. ولعلّه لهذا السبب بالذات، اقتنى السلطان العثماني من هذا المعجم مائتَي نُسخة إثر صدوره.

مصدر مهم لفهم التفاعل بين العربية ولغات من الشرق

قاموس خِنجريّ مدوّنة نفيسة، نفاسَتُها في طريقة استجابتها للمِفصَل التاريخي الذي شهدته الضاد في أوج تفاعلها مع العثمانية والفارسيّة، وفي انفتاحها على بدايات الحداثة المتردّدة، وإحالتها على مفاهيم تتّصل بمقاليد الدولة والإدارة والاقتصاد في نسخته الحديثة، التي تطوّرت بسرعة في ولايات السلطنة بعد أن اشتَبَكت بمقولات اللغة الفرنسية على إثر انتصاب الحكم الجمهوري.

وعسى أن يجعل "معجم الدوحة التاريخي" هذه المُدوّنةَ من ضمن موارده الأساسية، وهو يهمّ بالإعداد للمرحلة الثالثة من إنجاز موادّ مُعجمه، التي توقّع أن تشمل ألفاظ الحضارة في الحقبة العثمانية وأن تفحص ما طرأ على المفردات من تحوّلاتٍ. ونأمل أن يضطلع الباحثون الشباب العرب بالدراسة الإحصائية الدقيقة لموادّ هذا المعجم والنظر في طُرق تجاوب الضاد مع المفاهيم الفرنسية التي جعلها خِنجريّ منطلقاً لعمله، في قناعةٍ راسخة بأنّ الضاد ــ ورديفتيها الفارسية والتركية ــ قادرةٌ على مقابلة كلّ مفهوم وعبارة وتركيب بصُنوه، دون غضاضة ولا عقدة نقصٍ. ألا يَكفي هذا دليلاً على حيوية الضاد في وجه دُعاة العاميّة الذين لا يفتأون يجلدون فقْرَ الفصحى؟


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون