- تتنوع المنحوتات في رموزها، مثل "أم كلثوم" التي تركز على خلود الصوت، و"الكاتب المصري" التي تصور التأمل والوعي، وتعبر عن الفراغ كشرط للامتلاء، مما يعكس الصراع الداخلي بين النور والظلمة.
- تتقاطع المنحوتات مع رحلة الإنسان الوجودية، ممثلة محطات بصرية لحياته، وتعكس سعيه للمعرفة وهروبه من المجهول، محولة المادة الجامدة إلى لغة صامتة تحكي سيرة الفرد.
في معرضه "أكثر من كلمة"، المقام حاليًّا في غاليري "نوت" بالقاهرة، والذي يستمر حتى الثلاثين من الشهر الجاري، يقدم الفنان المصري حسام أبو العلا منحوتات ذات تعبيرات فلسفية وروحية تغوص في عمق تجربة الإنسان الحائر أمام تساؤلات باطنية تؤرق ماضيه وحاضره، تحديداً في بُعدها المتداخل بين الجسدي والمعنوي.
اختار حسام أبو العلا أن يبدأ بـ فكرة الحب، وهي المرحلة الأولى في رحلة الإنسان. فالطفل يولد محبوباً في مهده، لذا نرى في المنحوتة التي تصوّر رجلًا وامرأة لحظة تقارب. لكن الحبّ لا يحضر هنا عاطفةً إنسانية فقط، بل قوة كونية تربط الكائنات وتفتح أبواب التلاشي في الآخر وصولًا إلى الفناء في المطلق. ثم ننتقل إلى الصراع، المتمثّل في الجانب الحيواني من الشكل ذاته، حيث تظهر المخالب لتؤكّد ثقل الغرائز وشراسة النفس. هذا هو قلب التجربة الإنسانية، حيث لا يرتقي السالك إلا بعد صراع داخلي طويل مع أهوائه.
هكذا يقدم الفنان في وسط القاعة منحوتة تمثّل الحب واتحاد الإنسان مع الآخر، حيث يُلاحظ في الجزء العلوي ملامح لرجل وامرأة يتقابلان ويكاد كلٌّ منهما أن يقبل الآخر في حالة انسجام تام. التقاء الوجوه ليس مجرد لحظة حب، بل هو اتحاد روحي وتعبير عن فكرة صوفية جوهرية: وحدة الوجود.
منحوتات متباينة ترمز إلى الازدواجية في الطبيعة البشرية
أما الجزء السفلي من المنحوتة فيحمل رمزًا مثيرًا للانتباه: مخالب ذهبية ترتكز على صخرة سوداء. هذا التباين الصارخ بين رقّة الحب وشراسة الجوارح يرمز إلى الازدواجية في الطبيعة البشرية، تلك التي تجمع بين السمو والانحدار، العشق الروحي والغريزة الحيوانية. وفي التصوّف يُنظر إلى النفس على أنها ميدان صراع بين النور والظلمة، والحب بينهما يبدو وكأنه الجسر الذي يُمكّن الروح من التحليق والتسامي رغم ثقل الجسد.
لم يقدم أبو العلا في منحوتة الفنانة "أم كلثوم" صورة لامرأة عادية، بل أراد من خلالها التعبير عن صوتها وروحها. الوجه لا يبدو محدد الملامح بدقة، بل هو مزيج من التعابير المتداخلة الحاملة لأكثر من تأويل، مع بروز الحنجرة التي ترمز إلى خلود الصوت أكثر من الصورة.
في منحوتة "الكاتب المصري" نرى شخصًا متأملًا في وضعية جلوس أشبه ما تكون بوضعية بوذا، لكن الرأس يُختزل بشكل قطرة ماء أو شعلة لهب ما يمنحها بُعدًا رمزيًا. الشكل الهرمي للرأس يوحي بالتركيز مع النور المتصاعد والفكر المتقد. هذا الكاتب لا يُقدَّم عقلًا فقط بل يُقدَّم جسدًا استقر في حالة التأمل وانقطع عن الصخب ليكتب من مكان أعمق. هذه المنحوتة تترجم ذلك بدقة بصرية واضحة. قاعدة التمثال؛ وهي حجر صلب مشغول بدقة، ترمز إلى ثقل الواقع الذي يرتكز عليه الكاتب، لكنه لا يغوص فيه. الشعلة مكان الرأس تكشف عن حالة الوعي التي وصل إليها.
أما الشكل الذي نشاهد فيه رأسًا بشريًّا ينقسم إلى جزئين كي يكشف عن فراغ بداخله أو بالأحرى قطعة شفافة تُشبه الزجاج يمكن تأويله إلى أكثر من معنى؛ فقد يدل على النقص والسطحية والمادية، وقد يرمز إلى الحضور النقي. لأن الفراغ هو شرط الامتلاء؛ مَنْ لا يُفرغ ذهنه وقلبه من علائق الدنيا لا يُمكن أن يمتلئ بالبصيرة. الفراغ هنا ربما يكون صورة للعقل المستعد للتلقي والمعرفة والتجلي.
ربما لا يمكن تجسيد فكرة الحب من دون وجود للصراع وللحواس أيضًا. لذا تتشكل علاقة رمزية دلالية تعطف كل منحوتة على أخرى؛ من الحنجرة البارزة في وجه أم كلثوم التي تدل على جلالة صوتها في غنائها للحب ثم في ثبات حركة وجهها الشامخ إلى اختيار الفنان لوجه آخر غليظ مليء بالقسوة مع ابتسامة خفية تدل على طيبة تختبئ خلف الملامح الظاهرة.
بهذا التدرج الذي لا يمكن فصله أو إغفاله تقدم هذه المنحوتات رحلة وجودية تتكامل من الحب الذي يوقظ الشوق إلى الصراع الذي ينقّي، مرورًا بالذكرى التي تسمو إلى الخلوة الهانئة، وأخيرًا إلى الفراغ الذي يُمهّد للتجلّي. إنها منحوتات تخضع في تأملاتها لحالات الإنسان في اختلاف مراحله وتقلبات حياته. هذا يتضح أكثر في إحدى المنحوتات التي تتخذ من شكل الجماجم قاعدة أساسية لها ضمن إشارة صريحة إلى فناء الإنسان وتلاشي كل ما عاشه من لذة وشقاء.
تتقاطع المنحوتات جميعها في مضمونها الرؤيوي مع رحلة الإنسان الوجودية وتنسج معاً خريطة رمزية عميقة لمسار الإنسان الروحي والجسدي، حيث تتحوّل المادة الجامدة إلى لغة صامتة تحكي سيرة الفرد في خوفه وتشظيه وسعيه إلى المعرفة، وفي هروبه من المجهول كما لو أن هذه المنحوتات تُمثل محطات بصرية لمراحل أساسية في رحلة الإنسان من المهد إلى اللحد.