أطفال الندى (8): أراه يقتحمُ السكونَ قادماً من الأعالي

أطفال الندى (8): أراه يقتحمُ السكونَ قادماً من الأعالي

02 يوليو 2022
مرج ابن عامر من جبل طابور، في فلسطين المحتلّة.
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.


كان يشبه رجلاً من الهذيان الخالص وهو يتّخذ طريقه بين الصيافير وينحدر إلى بيتنا. وعلى غير عادته لم يضع يديه خلف ظهره متمهّلاً كما يرِدُ دائماً في الحكايات ولا سارَ صامتاً كما يسيرُ دائماً في خيالي، بل كان يتقافز وتتطاير أطرافُ "دِمايتهِ" فتكشف عن سرواله الطويل الأبيض ونعليهِ... ويكاد ينزلق متعثراً.

ذلك هو الشيخ حمزة الذي ظلّ ساكناً، ثم تحرّكَ فجأةً فإذا هو يهذي وهو يسحب وراءه أخبارَ البلد مثل غيمة وينشرها فتخيّم على بيتنا.

ويقول الذين شاهدوه إنّ سحابة الغبار التي كان يثيرها وهو ينحدر كانت تشبه جيشاً فاتحاً، وكان صراخه يتطاير فلا يصل منه إلى سمع أمّي التي كانت تراقبه إلّا وهوهاتٌ هي وهوهات الريح للفضاء.

لقد جُنّ الرجل... أو هكذا حسبناه في تلك اللحظة الهاذية وهو يقتحم سكون الغروبِ قادماً من الأعالي... من البلد؛ وعلى شفتيه تمتماتٌ بلا معنى وبين يديه شيء سجين لا ينفلت. ولم يكن يحمل شيئا غير جسده، وهو يسرع إلى بيتنا ويدخل من الباب لا يكاد يلتفت إلى أحد باحثاً عنّا نحن الصغار: "أين هم أحباب الرحمن؟".

وتركته أمّي يهرع إلينا ويحتضنني ثم يحتضنُ الأختَ الكبيرة وينحني على الرضيع متمتماً بكلام غير مفهوم.

كانتْ تلك هي ربّما أوّل مرّة تُظهر فيها الأبجدية والكلمات بلاهتها أمام أعيننا... ونشعر بأن شيئا ما غير مفهوم يحدث حولنا... شيء عصيٌ على الإدراك، وربّما على المشاعر، يجتاحنا بطوفانه ويفتح لنا عالماً بدأ يهذي من حولنا. عالماً من الإشارات السريعة والوهوهات يبدأ من الأعالي قادماً هذه المرّة ليحوّل العالم من حولنا إلى هواء من الصمت... وسهولٍ من العشب اليابس... يشبه ذلك الصمت الذي انتابَ أمّي وهي تستمع إلى الشيخ حمزة وهو يسرد ليلاً أخباراً لا تفقه لها معنى.

ويشبه هذا النعاس الحجريّ الذي ينتاب كلّ من حولنا فيحوّله إلى جسم ينحني ورأسٍ يهتزّ بإيقاع رتيب. هكذا عرفتْ أمّي أن حيفا سقطتْ وأن أدعية الشيخ حمزة ربّما هي السور الباقي الذي سيمسك عنها هذا الطوفان بعيداً أو يحوّله إلى أرضٍ أُخرى.

وفي عينيكَ شيء آخر غير ذلك الشيء الذي يقرنه الفلاحون عادةً بزيادة العلم... أي بالجنون

لم يكن أخي الكبير قد عاد بعد، وهو سيعود بالطبع، وكذلك والدي، ليسكن الجميع في عتمة الوادي وسكونه يستمعون إلى ضجيج قادم لا يهدأ، تحيط بهم المُغُرُ التي يتذكّر كل منهم الآن أياً منها يصلح ليكون ملجأ... ويستأذن الشيخ حمزة للذهاب في العتمة... وهم يتشبثون به ويكاد يأسه يخترق ما تبقى من مُغُرٍ وسناسل تطوف في أذهانهم.

كان مهزوماً مع كتبهِ، وربّما مع شهادة الأزهر التي لا نعرف هل حصلَ عليها أم لا؟ وربّما كان يُشهد الأهلَ على معركته الأخيرة التي خاضها دون أن ينجح في ردِّ النبوءة عن السنوات العجاف: "ستعودون بعد سبع أو سبع أو سبع... والله أعلم"... و"سيمتلئ وادي الملح بالشجر، وسينتصر العربُ إذا وضعوا يدهم بيد المسكوف".

إنّها الصدى أو هي قائمة الأبجدية في تاريخ الشيخ الذي لا يعرف أحد أين ذهبَ بعد تلك الليلة.

ها هي ذي أخيراً، بذرةٌ صلبة بدأت تنمو في أعماق الغابة الحجرية فيصير لها ماض، وحاضر ومستقبل. وأكذّب تخيّلاتي عن الذين سكنوا فجأة وكأنّما قيّدهم سحرُ ساحرٍ في مدينة مسحورة فتحوّلَ بعضهم إلى تماثيل، والبعض إلى أسماكٍ ملوّنة، وتحوّلَ الوطنُ ماءً عجاجاً متلاطم الأمواج.

"أيّها الصياد هيّا ألقِ بالشبكة"... هكذا أمرَ الملكُ بعد أن أزعجه هذا السمكُ الذي يصطاده الصياد، ولكن ما إن يبدأ الطبّاخُ بشيّهِ حتى يتحوّل إلى فحمٍ أسود. ويذهب الصيادُ. فلا يجد بحراً ولا سمكاً... بل فلاةً لا أوّل لها ولا آخر، فيقررُ الملكُ الرحيل بحثاً عن الماء والسمك... وحلّ هذا اللغزِ المحيّر.

لم يبقَ من الوطنِ إلّا صحراء يتردّد في جنباتها عويلٌ غير مفهوم كأنما ترتجله النجوم أو الحجارة. هذيانٌ متواصل يقول فيه كلّ شخص ما يشاء، فينضاف إلى الهباءِ هباءٌ من دون نهاية لهذا الجفاف.

"إنها سبع سنوات عجاف..." يقول الحاج القطروز..." أو هي سبع وأربعون أو سبع وسبعون... والله أعلم!". ويحيّرني كيف أن رجلاً بمثل هذه السنّ يمكن أن لا يعلم. وأضحكُ في سرّي من هذا الوقار الذي يلازم القطروز ويجعل مَنْ حوله يستمعون وكأنّما الخلاصُ غداً... أو بعد ساعة.

سأستنطق الشيخ حمزة أو تلك البذرة التي اهتزّتْ ونمت فجأة وتدحرجتْ إلى القاعِ وبدأت تكبر وتتفتّح وتبرز لها جذور دقيقة ووريقاتٌ خضراء، وتتحوّل في لحظةٍ إلى رجل/ شجرة تهمس في الظلام بأسرارِ الموتِ والميلاد. ألم تفقد عقلك بين تلك الصيافير مثل صاحبنا الجندي التركي؟ ألم تتدحرج بين المُغُر باحثاً عنها، تلك الجنّية التي كانتْ تحميكَ وتمنع عنك الرصاصَ والغزوات؟ أنتَ لستَ معنا الآن.

ولكنكَ كنتَ في الماضي، كنتَ بمعنى أنّ لكَ جسداً يطوف بين صيافير الكرمل ويتفقّد المُغُرَ ويراقبُ نموّ الحجارة والشجر، ويشيح بوجههِ عن الفلّاحين الجهلة الذين أحببتهم. كنتَ في الماضي بمعنى أنّكَ لا بدّ صادفتَ دوروثي غرود وهي تنتقّل من مغارة إلى مغارة ببنطلونها القصير وقبعتها الضخمة ونظاراتها الطبية فأخفيتَ الأمرَ وحسبته سرّاً خاصاً بكَ. ولا بدّ أنك استثاركَ الفضولُ... فضول الجسد وفضولُ التاريخ الذي حيّركَ حين كان ينقطع عندَ سناسل أمّ الزينات.

أأمضي في الخيال أم أترك لكَ هذا الغموض الذي يلفّكَ؟ إنكَ واضحٌ الآن بعد أن بدأتَ تنمو. واضحٌ كما لم تتّضح في جنونكَ الأخير حين سقطتْ حيفا كما تقول أمّي. وقد تكون واضحاً ربّما حين صحوتَ ذات يوم، فإذا بكَ تفقد عادتكَ اليومية... دوروثي غرود... التي لم تكن تعرف اسمها حتى، أو لم تكن تعرف من أين جاءت... أمِنَ المُغُر المنتشرة على سفوح الكرمل أم من صفحات "ألف ليلة وليلة" وغزوات الملك شركان:

"أيتها الجارية... هيّا فقد اشتاقت الأوطانُ لأصحابها".

ولكن خَدَعتكَ نفسُكَ فالعكس هو الذي حدث بالتأكيد، ولم ترحل أنتَ بل هي التي رحلتْ متأبّطة مجلّداتها الصفراء، ووراءها قافلة من السيارات محمّلة بالتوابيتِ والترابِ والجرار.

وفضولُ التاريخ الذي حيّركَ حين كان ينقطع عندَ سناسل أمّ الزينات

تعال أيها الشيخ ولنكُن واضحين تماماً، فالآن لا صخرة تمتلك ذاكرة ولا بشر في هذه الصحراء. لا تخف... فلن أكون أبا الهولِ بالنسبة لكَ... بل سأكون دائماً هذا الصغير الذي سمّيته "غزال جرماشة"، وما زال حتى الآن لا يعرف أين تكون جرماشة هذه. لنتصارح حول تلك اللحظة التي هبطتَ فيها إلى الوادي، متتبّعاً آثار الندى فوق الأعشاب متلصّصاً على غير عادتكَ، وفي عينيكَ شيء آخر غير ذلك الشيء الذي يقرنه الفلاحون عادةً بزيادة العلم... أي بالجنون... شيء خلعتَ فيه نفسكَ التي عاشتْ حتى الآن، وأظهرتَ فيه بريقَ اللهفة ورغبة الجسد.

لم تكن أنتَ بالتأكيد من نبّهَ دوروثي غرود إلى ظلّكَ وهو يخيّمُ عليها وهي تنقّبُ وتحفر وتمسح العرقَ عن وجهها فتلتصق خصلاتُ شعرها الشقراء المبلّلة بخديها وجبينها... بل كان ذلك الحسُّ الأنثوي الذي تملكه أنثى السمك. نحن ما زلنا في البحرِ... لا تنسَ ذلك، وما زلنا نصارع التنانين والحِيتان، رغم أن كلّ هذا لا يُذكر إلا في الكتب. بحرٌ غامضٌ يقالُ إنه بداية البذرة وسرّ اهتزازها... وجدتَ فيه أنثاكَ... وجنونكَ فيما بعد.

وأسألُ هل كان ضَياعُ حيفا أم ضَياع دوروثي غرود هو الذي دفع بكَ إلى الانحدار من الأعالي؟ أم هو ذلك الوحش الكامن الذي طلبكَ للنِّزال فطأطأ الجميع رؤوسهم وقالوا سمعاً وطاعة... فازدريتهم... وانسحبتَ هابطاً سفوحَ العقل إلى حيث ينتظركَ الوحش؟

لقد حلّ الجفافُ والقحطُ في الأرض حين هويتَ من عليائك ساقطاً بين أشداقهِ... أزهريٌ مسكين... قرأ كتبه المعدودة ربّما للمرّة الألف، وأصابه الضجرُ والبلى. ولكن أمّي تقول أنكَ خيالٌ يسيرُ بخشوع وتأبى على خيالي أن يُحييكَ... أي أن يجسّدكَ بشرياً، أو أن يطلقكَ في دروب هذه الرواية لتصلَ إلى موقفٍ تبكي فيه... أو تنشج كطفل صغير عند باب مغارة خالية مع أنكَ بكيتَ بالتأكيد... وربما قبّلتَ التراب... ولا أدري ماذا قلتَ آنذاكَ... وأي تجديف قذفتَ به بوجه الناس الذين أسلموك لتحتفظ بسرّ تلك اللحظة التي ما عاد النهار فيها نهاراً ولا الزيتون زيتوناً. ولتعُد مرّة أخرى إلى جسدكَ السائر صاعداً، يداك خلف ظهرك ورأسك خالٍ إلّا من الهواء الذي يهبّ من البحر... والضوء المُقبل من البعيد... ضوء السفن في ميناء حيفا وهي تلقي مراسيها وترحل.

سأقول إذن إنكَ قرين الهذيان الخارج من النصّ... أي نصّ... وقرين السقوط والارتفاع في وقت لم يكن يمتلك فيه الأهلُ مقياساً يقيسون فيه مدى ارتفاعهم عن البحر، أو بعدهم عن هذا التلّ أو هذا الوادي... سيقيسون بعدك بالليلة... بعد الليلة والنهار بعد النهار. وسينحدرون سنويّاً ليقيموا ظلّكَ من الترابِ ومن زوايا الكهوفِ وتنتشر نيران الاحتفالاتِ في المخيّمات... وعلى أطراف البلاد التي تحوّلتْ إلى هوة واسعة... تنهار أطرافُها شيئاً فشيئاً.

لم تعد بحاجة إلى العودة أو البدء من جديد وأنتَ تستقرّ في مكان ما، ربّما كان بئراً من آبار أمّ الزينات أو حاكورة من الحواكير المهجورة التي عاثت بها الضِّباع وعرّشت فوقها أشجار الصبر والزعرور البّري... وغمرها العشب الطويل النامي فاختفى بياض السناسل الحجرية والعظام التي صرت إليها، وما ظلّ غير الندى... الندى الذي يبلّل الأوراق الخضراء والجذور... الندى... والندى وحده.

المساهمون