أطفال الندى (5): كما لو أنّ الأمر لم يحدث بعد

أطفال الندى (5): كما لو أنّ الأمر لم يحدث بعد

11 يونيو 2022
من قرية إجزم التابعة لقضاء حيفا والتي هجّر الاحتلال الإسرائيلي أهلها عام 1948
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.


في ذلك المساء الذي خرجَ فيه الشيخُ حمزة صاعداً الجبلَ ويداه خلف ظهره مفكّراً، كانت أمّ الزينات تدعم متاريسها بالمزيدِ من الحِجارة فتقيم على أطرافها السناسلَ الحجرية مثل تلك السناسل التي يقيمها الفلاحون حول كرومهم وحواكيرهم لمنع الضِّباع من إتلافِ المزروعات وللتدليل على حدودِ المُلكية، وظلّتِ السنسلة موجودة في الحكايات... فهي حاضرة دائماً عندما تُذكر الأفعى التي اختبأتْ في السنسلة، أو الثعبان الأسود الذي انتصبَ على ذيله، ثم رمى نفسه من فوق السنسلة فإذا هو في قلبِ الصبر.

ولكن على مبعدةٍ من هذا العالم المشغول بإقامة السناسل الحجرية وتناقلِ أخبار هجمات اليهود على "حوّاسة" و"إجزم" و"عين غزال"، وفي المساء نفسه، كانت طائرة "سكايمستر" أميركية يملكها رالف الابن من نيويورك تهبط في "مطار براغ" وحمولتها سبعة أطنانٍ وتحيط بها حراسةٌ تشيكية مشدّدة. لتقلع من ثم فوق القطاعين الأمريكي والبريطاني في أراضي ألمانيا المحتلّة، ثم تتابع سيرها جنوباً إلى مطارٍ قديم لسلاح الجوّ البريطاني في بيت دراس في فلسطين... وتحطّ هناك بمساعدة أنوار للإضاءة. 

وعلى بعد خمسة عشر ميلاً كان مخيم المشاة البريطاني لا يلاحظ شيئاً. ويتمّ تفريغ الأسلحة والذخيرة وتحمل إلى مستعمرة بيرطوفيا اليهودية القريبة على عجل.

وتهبّ نسماتٌ من البحرِ، ويزدادُ الليلُ حلكةً، قبل أن يتّخذ الشيخ حمزة طريقه مرّة أخرى منحدراً إلى القرية. أكان يرى في وجومه هذه الرؤيا؟ أم كان مجرد معتوه عاد من الأزهرِ قبل أن يتمّم تعليمه، وأهّلَ القرويين بحمولته من مخطوطات النحو والمنطق؟


وأقرأ فيما بعد أن الكتيبة الرابعة من "لواء غولاني" هي التي كُلّفتْ بتدمير أمّ الزينات ليلة 15- 5 - 1948. 


يتحدّث أبو جيدة، السائق الذي يخشى أن يفاجئه الشرطي بدون نظارات، عن رجل عالم يلقي عليهم بالألغاز، غزير المعرفة إلى درجة محيّرة... فهو يسأل: "إذا أخذنا جثة وتركناها تتحلّل إلى أن تتحوّل إلى تراب ثم زرعنا في هذا التراب بندورة مثلاً، هل يجوز الأكل منها أم لا؟"... فأقول: " آه طبعاً!"... فيردّ أبو جيدة:

      ـ "لا المسألة ليست بهذا الشكل"

      ـ "إذن إليك الجواب. لايجوز أن نأكل منها"

فيهزّ رأسهُ ويقول:

      ـ "وهذا أيضاً ليس بجواب"

      ـ "ما هو الجواب إذن؟"

      ـ "لا أدري!"

فكّرتُ بهذا الرجل المشغول بألغازه... وبهذه المجموعة القروية التي تجتمع كلّ ليلة تقريباً، وأنا أتتبّع خطى الشيخ حمزة وحركة الأضواء وهي تمهّد لنزول الطائرة، وشعرتُ بأنّني لا أستطيع التوفيق بين الزمنين... بين نداوة تلك الليلة وخضرتها وبين هذه المجموعة التي تتناقل أخبار المذهلين من الناس... الناس اللاجئين.

تقول أمّي: "كنّا نسمع أصواتهم تتنادى... كاديما.. وتنهار السناسلُ... يدوّي صوت يشبه الهدير" ويهرع القرويون إلى كلّ الجهات يتفرّقون ويجتمعون... ويهرع أخي الكبير تاركاً البلدة عائداً إلى البيت، فيمسكه أحدهم... ويصرخ به: "إلى أين؟ لقد ذهبوا جميعاً" ويعني بذلك الأهل القابعين في ذلك البيت على طرف أمّ الزينات". أمسكتُه - الله يرحمه - من قميصه، ولكنه اندفع لا يلوي على شيء.

وكان البيتُ خالياً. لا أحد يكمل القصة أو يجمع خيوط الرواية. ففي حلكة الليل صحوتُ على أحدهم يحملني. وبعدها كان صباحٌ باكرٌ وضباب تسميه أمّي "غطيطة"، وتفسّر بعضَ ما رأيتُ وتسميه... فذلك المكانُ هو في الطريق إلى الدالية... وذلك الرجل الذي كان ينادي بين الصخور هو محمد القاسم... ومن كان يحملك هي أختك الكبيرة. ولا تتّضح الصورة رغم هذه المسمّيات. وأشعر كما لو أنّ الأمر كلّه حادث حدث أو لم يحدث بعد.

وأقرأ فيما بعد أن الكتيبة الرابعة من "لواء غولاني" هي التي كُلّفتْ بتدمير أمّ الزينات ليلة 15 - 5 - 1948. ولكن أمّي التي لا تعرف هذا، ولن يضيف لإحساسها جديداً ذكرُ هذه الأسماء، تظلّ غارقة في ثرثرتها لتضيف تفصيلاً هنا أو تفصيلاً هناك وكأنها تطرّز فستاناً فتتذكّر أن الشيخ حمزة لم يكن قارئاً فقط بل كان طبيباً أيضاً وذا حسٍّ جماليّ أيضاً، وكثيراً ما كان يمرّ على بيتنا، فيشير إلى الصغير الذي تحمله أمّي قائلا: "من أين لكم غزال جرماشة هذا؟". 

وجرماشة هذه أعرف أنها موجودة في مكان واحد فقط هو حديث أمّي... كما أشياء كثيرة لا وجود لها إلا في رواياتها. ويعجبني أن يكون هذا الصغير الذي هو أنا غزالاً في يوم ما. ولكن لماذا جرماشة هذه؟ يبدو أنها مكانٌ تكثر فيه الغزلان ربما كان في "الروحة" التي هي المرعى والمنتزه كما يبدو، وربما كان في الجزيرة العربية. ولكن جرماشة حين تنطقها أمّي تشير إلى مكان مألوف. 


هل يعتقد القرويون أنّ البطل الأسطوري لا يمكن أن يكون مثلنا ومن هذا العالم تماماً


نسيتُ أن أسألها يومذاك عن مكانها على الخارطة، كما نسيتُ أن أستفسر عن أشياء كثيرة بسبب أن كل شيء كان يبدو غريباً وفريداً من نوعه، لا يترك مجالاً لغير الإصغاء، فماذا حدث للشيخ حمزة؟ وماذا حدث لحمولة البشر وآل ماضي؟ وغيرهم...؟ 

الآن فقط أتذكر أنّ تفاصيل كثيرة ما زالت غائبة ربّما لأن العاطفة التي تروي بها الأمُّ هذه الروايات كانت تدفعها إلى تناسي أشياء وأشياء متعمّدة، وأذكرُ أنّها حين كانت تتذكر مَنْ مِن أمّ الزينات استشهد في الثورة، قاطعتُها لأسألها عن شخص أوردت اسمه... وماذا كان يعمل.

 ورأيتُ منها كراهة للسؤال بدون مبرّر، وأخيراً اضطرّتْ للاعتراف أنّه كان صاحب بقالة. هل يعتقد القرويون أنّ البطل الأسطوري لا يمكن أن يكون مثلنا ومن هذا العالم تماماً؟ ربّما. ولكن هذه الحادثة جعلتني أسترجع مواقف مشابهة... كان صوت أمّي ينقطع فيها فجأة كأنّ الأحاديث عن المقدّسات لا يصحّ أن تكون هكذا... وأنّ لها طقوسَها ومراسيمها، وزمنها أيضاً... والزمن لا يأتي دائماً. إنه المؤجّل إلى حين.

إذن كانت السناسل تنهار في تلك الليلة، ويفقد القرويون صوابهم، ولكنّ المقاتلين منهم لم يسلّموا بالهزيمة، فقد عاد عددٌ منهم إلى أمّ الزينات في الصباح. تروي أمّي أن أحدهم عاد إلى بيته بكلّ بساطة كأنّ اليهود غيرُ موجودين أو كأنّ أحداث الليلة السابقة لم تكن إلّا حلماً، فاصطدمَ باليهود، وطاردوه بين أحراج الزيتون، فظلّ يُشاغلهم ببندقيته الوحيدة بدون أن يدرك أنّه يواجه كتيبة وليس رجلاً واحداً، وأخيراً اضطرّ إلى الهبوط في بئر، وظلّ هناك طيلة النهار، وهم يروحون ويغدون فوق رأسه إلى أن جنّ الليل، فتسللَ مغادراً قريته وليبتلعه الليل بعيداً.

عرفتُ فيما بعد أن الشيخ حمزة ظلّ هناك. ولكن كيف... وأين؟ لا أدري. وظلّت عدّة عائلات.

تقول أمّي: "حين وصلنا إلى جنين أرسلَ إلينا محمود الماضي رسولاً يطلب منّا العودة ويقول إنه أخذ الأمان لنا من اليهود. ولكن لا أحد فكّرَ بالعودة". من هو هذا الذي تصفه أمّي بالخائن؟ سيكون عليّ بعد سنوات أن أسمعها تردّد بحسرة: "ليتنا متنا هناك ولم نأتِ إلى هذه البلاد".

إذن فقد كان محمود الماضي هذا على حقّ، رغم أنه كان يودّ استعادة فلاحيه ليظلّ صاحبَ أراض وزعيماً. وتظلّ السناسل ذاتَ شخصية أبقى من أسماء الأشخاص، فهي حاضرة دائماً، يتحدّثون عنها كأنّها مجرّد كومة من الأحجار المهشّمة التي تنهار عند أقلّ دفعة كما في هجوم اليهود، ويتحدّثون عنها وكأنّها جدار صلب يقف عاتياً، فيمنع هذا من غزو أراضي ذاك. أتخيّلها مجرّد حجارة تغطّيها الأعشابُ تنحدر متلوّية بين الكروم وعلى حافة الطُّرق... وكأنّما أُقيمت هناك بالصُّدْفة أو أن أناسَ العصور القديمة تركوها لنا قائمة تتناسل بالصُّدْفة الموحشة.

والحقيقة أنّ حديث السناسل والأماكن في روايات أمّي يكاد يكون حديثاً عن أماكن موحشة لا يسكنها البشر، فهي تتحدّث عنها كأنها ملكٌ شخصي لها، فلا أكاد أتخيّل سنسلة غير معروفة أو أن غير المعروف لا يردّ في الرواية.

إن تفاصيلَ كثيرة تغيب ليس لأنها غير موجودة وإنما لأنها فقط لا تتعلق بنا أو لا شأن لنا بها، فأين تقف حدودنا وأين تمتد؟

لسنا شاسعين ككون، ولكننا أشبه بسكان الجوز الأقزام الذين بنوا بيوتهم ومصائرهم بين جدران حبّاتِ الجوز فاجتاحهم الطوفان، وقوّض مساكنهم، وما عرفوا حتى هذه اللحظة ما حدث ولا كيف حدث.

"... كنّا نلتقي في الروحة" تقول أمّي: "وكانوا يجمعون العكّوب..."، وتبدي استغرابها أنهم عرفوا هذا النبات الفلاحي الخاص، هؤلاء الذين تشير إليهم بوصفهم سكنوا القبّانيات، فالشيطان وحده يعلم من أين جاؤوا. "كان الواحد منّا حين يسأل أحدهم ابن من أنتَ، كان يقول أنا ابن الجميع". وتعلّق أمّي: "كانوا لا أحد يعرف أباه أو أمّه. أما يهود بلادنا فكانوا يتحسّرون ويقولون: "إنّنا نريدكم أن تبقوا، فنحن لا نحب هؤلاء الغرباء".

ويعزّي أحد المتحدّثين الجماعة المتحلّقة حول نار الأحاديث فيروي أنّ يهودياً من البصرة حدّثه عن أقرباء له ذهبوا إلى فلسطين... كتبوا له قائلين: "إذا أردتَ أن تعرف كيف نعيش فاذهبْ وشاهد مخيّمات اللاجئين..." وضعهم ليس أحسن من وضعنا. هكذا كانت الجماعة تتنفس بارتياح ريثما يأتي الغد أو بعده. كم يبدو ذلك الزمن صدئاً وأبله بلا معنى... هوّة متّسعة يسبح في فضائها هؤلاء الذين سيكونون أهلنا وجيراننا ومعارفنا... أقزام في حبّات الجوز... أُطلقوا فجأة خارج مساكنهم لأسباب لا يعرفونها.

ويتمتم الحاجُ أبو خليل ومسبحته ترتجف بين أصابعه: "لا أحد يعرف معنى السبعة المقصودة. فقد جاء في الحديث ستعودون بعد سبع... وسبع... وسبع... أهي سبع ليال أم أيام... أم أشهر... أم سنين؟ الله أعلم!".

وأحسبُ السبعة هذه أو السبع وأتساءل... ما تعني؟ فقد مرّت إذا كانت أياماً، وكذلك مرّت إذا كانت أشهراً. أما من السنين فقد مرَّ أكثر من أضعاف السبع سنوات. إنها لغزٌ آخر مثل بقية الألغاز التي يلقيها أبو الهول الصخريّ هذا... أعني الزمن الذي لا نهاية لامتدادهِ.. أبو هولنا المتحرك الذي وَرَثَنا بعد أن أعجزَ آباءنا... وربّما يظلّ يُعجِز أحفادنا. كلّ شيء نورّثه لهذا الزمن ونترك له ما نملك شيئاً فشيئاً.

لقد رأيتُ الكثيرَ من الصامتين والمأخوذين والراكضين والعابثين والباكين في أحضانِ أبي الهول هذا... وكأنه بألغازهِ يلقي بالسكونِ على أعماق كلّ هؤلاء ويسجنهم إلى الأبد، ويسجننا نحن الصغار في انتظار أن نكبر، فيأخذنا من آبائنا وأمّهاتنا، ويحوّلنا إلى تماثيل في غابته الحجرية.

المساهمون