أسعد عرابي.. نقد الصورة المستعارة للفن العربي

30 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 18:18 (توقيت القدس)
أسعد عرابي (صفحة الفنان الراحل/ فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- عاش الفنان والناقد السوري أسعد عرابي حياة مليئة بالترحال بين مدن مختلفة، وسعى لوضع الفن العربي في مكانه الحقيقي، ولعب دورًا كجسر بين الأجيال، حيث كان مرشدًا للفنانين العرب في باريس.
- تأثر بكتابات الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي، واعتبر الفن امتدادًا للرؤية العرفانية، وظهر هذا في أعماله مثل معرض "نوستالجيا" لأم كلثوم، وكان ناقدًا للمشهد التشكيلي العربي.
- كتب عرابي كتبًا مهمة مثل "شهادة اللوحة"، وترك إرثًا يوحّد بين الفن والوعي، ساعيًا لجعل الفن العربي جزءًا من العصر.

لم يكن الفنان والناقد السوري أسعد عرابي، الذي رحل أول من أمس الجمعة، واحداً من أولئك الذين يستقرون في مكان واحد أو يركنون إلى سكينة تقليدية. بدت حياته رحلة طويلة في المنافي والمدن؛ الزرقاء ودمشق وصيدا، وصولاً إلى باريس التي صارت محطته الأخيرة منذ منتصف السبعينيات. وكأن قدره أن يعيش معلّقاً بين حنين لا ينتهي إلى مدن الوجدان الأولى، وبين انخراط كامل في مشهد عالمي، سعى من خلاله أن يضع الفن العربي في موقعه الحقيقي، لا في صورة مستعارة أو مرتهنة لمصطلحات الآخرين.

وإلى جانب هذا المسار الشخصي، لعب عرابي دوراً خفياً بوصفه جسراً بين الأجيال، فكثير من الفنانين العرب الذين قصدوا باريس في الثمانينيات والتسعينيات وجدوا فيه صوتاً موازياً لتجاربهم، ومرشداً يضعهم أمام الأسئلة الصعبة، لم يكن يميل إلى المجاملة أو التشجيع السطحي، بل إلى ما يشبه التقويم الجمالي، حيث كان يواجه الفنان الشاب بحدّة صريحة، ويطالبه بأن يختبر صدق تجربته قبل أن يطرحها على العالم. ولم يقتصر حضوره على كتابة المقالات أو تنظيم المعارض، بل انخرط في حوارات طويلة مع طلبة الفنون والباحثين، نقَل من خلالها خبرته المركبة التي تجمع بين الصنعة الفنية والفكر النقدي، وبين التجربة الحسية والتأمل العرفاني، وبقي أثره حتى بين أولئك الذين لم يلتقوه مباشرة، لكنهم وجدوا في نصوصه وكتاباته دليلاً وسط التباسات الحداثة وأسئلتها.

ولد عرابي في أسرة عُرفت بالترحال، فوالده الذي حمل لقب البهلول، تنقّل بين حواضر عدّة، وترك لابنه طبعاً غجرياً مترحلاً، أورثه شعوراً بالانفصال عن المكان، وبحثاً دائماً عن مرسى لا يأتي. في كتابه "شهادة اللوحة" يستعيد تلك النشأة ويقول إن لوحاته مشوبة دائماً بحيرةٍ متوجعة، إذ ظلّت الأمكنة تتنازعه عاطفياً، حتى صار الاغتراب جزءاً من نسيجه الداخلي.

لوحاته مشوبة بحيرةٍ متوجعة، إذ ظلّت الأمكنة تتنازعه عاطفياً

في دمشق التحق بكلية الفنون الجميلة، وتخرج منها بتقدير امتياز، ليصبح أستاذاً في الكلية نفسها، لكنه لم يلبث أن شدّ الرحال إلى لبنان، ومنها إلى فرنسا ليواصل دراساته العليا في الفن الإسلامي، وكتَب أطروحته عن علاقة الموسيقى بالتصوير. لم يكن ذلك صدفة، فالموسيقى كانت حاضرة في تكوينه منذ الصغر، وكان يقول دوماً إنه لو لم يكن رساماً لكان موسيقياً. بالنسبة له، كانت الموسيقى أكثر إعجازاً من التصوير، وأقرب إلى الروح في طابعها الصوفي الخالص.

هذا البعد في تجربة عرابي لا يمثل زينة خطابية، بل جوهر نظرته إلى الفن، فقد تأثر عرابي بكتابات الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي، واعتبر الصورة امتداداً لتلك الرؤية العرفانية التي تبحث عن المطلق. ولعل هذا ما يفسّر انجذابه إلى تجربة أم كلثوم، التي خصّص لها معرضاً في القاهرة عام 2011 بعنوان "نوستالجيا". لم يكن الأمر مجرد استرجاع لصورة المطربة، بل محاولة لالتقاط بعدها الرمزي كأيقونة من أيقونات النهضة العربية، فلم يرسم ملامحها بقدر ما استحضر الأجواء الروحية التي صنعتها موسيقاها، من المقامات الشرقية إلى نشأتها في بيت متدين، وصولاً إلى ما حملته من أثر عميق في موسيقيين عالميين مثل موريس بيجار وبيلا بارتوك.

من معرض "نوستالجيا" في القاهرة، 2011/ العربي الجديد
من معرض "نوستالجيا" في القاهرة، 2011/ العربي الجديد

في حديثه وكتاباته، كان عرابي شديد النقد للمشهد التشكيلي العربي، لأن معظم أعمال الفنانين العرب، في رأيه، ترطن بإشكاليات تجاوزها العالم منذ عقود. الحروفية مثلاً، التي بدت لسنوات حركة أصيلة، اعتبرها مجرد اختراع غربي أُلبس لبوساً عربياً، حتى النقابات الفنية في العالم العربي لم تسلم من نقده، لأنها ساوت بين الفنان المحترف والهاوي، فغلب صوت من لا يعرف على من يعرف، وأصبحت ساحة للفوضى وتكريس الجهل.

ورغم قسوته النقدية، ظل عرابي يرى نفسه في موقع مزدوج، منحه قدرة على مقاربة الأعمال من الداخل، بعين مَن جرّب ومارس، وهو ما جعله قادراً على المقارنة بين ما يُنتج داخل العالم العربي وما ينتجه فنانون عرب مهاجرون. كان يعتقد مثلاً أن الفنان العراقي ضياء العزاوي، أو اللبناني شفيق عبود، قدّموا إسهامات لا تقارن بما يُنتَج داخل أوطانهم، وكأنّ الاغتراب في أحيان شرط ضروري للإبداع، وإن كان ثمنه باهظاً على المستوى الإنساني.

في لوحاته، كان يحاول أن يمنح لحظاته الهاربة شكلاً ثابتاً، كأنّ اللوحة بالنسبة له وسيلة لمقاومة الترحال الدائم. الأبيض الذي يبدأ به سطح اللوحة كان بالنسبة له مساحة مجهولة، يقتحمها أحياناً من دون تخطيط، وأحياناً عبر اسكتشات وتحضيرات. لكنه في النهاية كان يذهب إلى الذاكرة، يستدعي منها المشاهد والألوان، ليحوّلها إلى تكوينات مشبعة بالرمزية والتأمل، بهذا المعنى، كانت لوحاته نفسها "نوستالجيا" شخصية، حنيناً إلى ما ضاع، أو محاولة لإعادة تشكيله جمالياً. 

كتَب عرابي عدداً من الكتب المهمة، بينها "شهادة اللوحة" و"صدمة الحداثة في اللوحة العربية" و "وجوه الحداثة في اللوحة العربية"، وهو بذلك ينتمي إلى قلة من الفنانين العرب الذين جمعوا بين إنتاج اللوحة وكتابة النص، بين الإبداع والتأويل، هذه الميزة جعلت أثره مضاعفاً: في المشهد التشكيلي كما في الوعي النقدي. وفي كل ما كتب ورسم، برز قلقه الدائم على الثقافة العربية، وإحساسه بأن الفن لا يمكن أن ينفصل عن معركة الوعي. ربما هذا ما يفسّر حدة آرائه أحياناً، وكذلك نزوعه الصوفي الذي رأى فيه ملاذاً من صخب العالم وانقساماته.رحل أسعد عرابي. وربما كان قدره أن يعيش ابن المدن الممزقة، لكن ما خلّفه من تجربة فكرية وجمالية يبقى موحَّداً، شاهداً على جيل سعى إلى أن يجعل الفن العربي جزءاً من قلب العصر لا مجرد تفصيل على هامشه.


(كاتب من مصر)

المساهمون