استمع إلى الملخص
- يكشف الكتاب عن شبكة معقدة من الجرائم المنظمة في سوق الفن البلجيكي، حيث يتم تهريب الآثار وغسل الأموال، ويشير إلى أن 60% من الآثار في المزادات البلجيكية مزيفة أو منهوبة.
- يوضح الكتاب الثغرات القانونية في بلجيكا وتواطؤ بعض الخبراء في إصدار شهادات مزورة، مما دفع الحكومة لتشكيل وحدة خاصة لمكافحة جرائم الفن.
في الحادي عشر من يوليو/ تموز الماضي، سلَّمت بلجيكا رسميًا إلى مصر تابوتًا أثريًا نادرًا من العصر البطلمي يعود لأكثر من 3000 عام، كان قد هُرِّب من مصر خلال فترة الاضطرابات التي أعقبت ثورة يناير/ كانون الثاني في 2011. بدا هذا الحدث خطوة رمزية نحو تصحيح أخطاء الماضي، لكنه في الواقع مجرد قضية واحدة وسط عدد لا يحصى من قضايا الفن المنهوب في أوروبا.
هذا ما يكشف عنه كتاب "أسرار سوق الفن في بلجيكا: تحقيقات في عمليات النصب والاحتيال والنهب" (منشورات راسين بي، بروكسل، 2024)، للكاتب البلجيكي برنارد ستايسنز، وهو اسم مستعار لأحد المخبرين السريين في عالم الاتجار بالقطع الأثرية المسروقة من أفريقيا في السوق الأوروبية، كاشفًا فيه عن أن بلجيكا تحولت إلى مركز دولي للاتجار في القطع الأثرية والفنية المنهوبة من بلدانها.
جمَع ستايسنز في كتابه حوالي خمسة عشر تحقيقًا قضائيًا أجريت في بلجيكا منذ 2015 وحتى اليوم، في مجال الاتجار في القطع المنهوبة، ولأن بعض هذه القضايا لا تزال قيد المحاكمة، وتضم أسماء لشخصيات معروفة ومتنفذة في سوق الفن في أوروبا، وسيكون الكشف عنها فضيحة، اختار الكاتب أن يُجري مقابلاته مرتديًا قناع "توت عنخ آمون"، ومستخدمًا اسمه المستعار الذي ينشر به كتبه.
صدر الكتاب باسم مستعار لمخبر سريّ في عالم الاتجار بالآثار
يعرّف ستايسنز نفسه للصحافة البلجيكية بأنه حفيد تجّار للآثار، وجامع تحف وخبير أثري شغوف، وبفضل خبرته الطويلة في هذا المجال لاحظ سلوكيات مشبوهة حول بعض القطع والمعاملات في السوق الفنية البلجيكية، ومن خلال شبكة معارفه، جمَع معلومات كثيرة عن خفايا سوق الفن، وأصبح مُخبرًا للشرطة الفدرالية البلجيكية.
قضى الكاتب أكثر من خمس سنوات في البحث الميداني، قابل خلالها مهربين سابقين، ودرَس وثائق قضائية سرية، وتسلل إلى دوائر تجار الفن المشبوهين، وكانت النتيجة هي هذا الكتاب الذي يزعزع الصورة النمطية عن بلجيكا كمركز ثقافي أوروبي بريء، ويكشف عن أن بروكسل أصبحت واحدة من أهم المحطات في الطريق الدولي لتهريب الآثار.
شكّل الكتاب، الذي يقع في 240 صفحة، وثيقة دامغة تكشف النقاب عن شبكة معقدة من الجرائم المنظمة التي تختبئ وراء واجهة سوق الفن الراقي، وما بدأ تحقيقًا صحافيًا في عمليات تزوير بسيطة، سرعان ما تطوّر إلى كشف مروع لشبكات دولية لتهريب الآثار وغسل الأموال والاتجار في الممتلكات الثقافية المسروقة من دول تعاني النزاعات والحروب.
60% من الآثار في المزادات البلجيكية مزيفة أو منهوبة
يكشف الكاتب أن الأمر لا يقتصر فقط على مصر أو بعض البلدان الأفريقية، ففي أحد الاستديوهات الفنية في وسط بروكسل، صادرت قوات الشرطة الفيدرالية البلجيكية قبل شهور مئات القطع الأثرية المسروقة من البلدان الأفريقية، على رأسها الكونغو ونيجيريا ورواندا وبورندي وليبيا، إضافة إلى مئات القطع الأثرية المنهوبة من العراق وسورية والسودان. وبحسب الكتاب الذي أثار جدلًا واسعًا منذ صدوره وحتى اليوم، فقد تمت مصادرة هذه الأعمال دون ضجة إعلامية كبيرة في السنوات الأخيرة.
يفتتح ستايسنز كتابه بهذه العبارة الصادمة: "ما لا يقل عن 60% من القطع الأثرية المعروضة في صالات المزادات البلجيكية مزيفة أو منهوبة"، ولكنه لا يكتفي بهذه الادعاءات العامة فقط، بل يقدم دليلًا تلو الآخر، ويوثق في أحد الفصول بالصور والوثائق كيف يتم تهريب القطع الأثرية المصرية، إذ تبدأ العملية في المقابر والمعابد المصرية، حيث تعمل عصابات مسلحة بمساعدة بعض المسؤولين الفاسدين على نهب القطع الأثرية تحت جنح الظلام.
وبعد ذلك لا تأخذ القطع المسروقة طريقها مباشرة إلى أوروبا، بل تمر أولًا عبر دول مثل الإمارات أو تايلاند، حيث يتم "غسل" أوراقها. إحدى الحيل التي يكشف عنها الكتاب هي تغليف القطع الأثرية الثمينة على أساس أنها "تحف ديكور عادية" لا تزيد قيمتها عن بضع مئات من الدولارات، ما يسمح بتهريبها عبر الجمارك دون اشتباه، وتظهر وثيقة مسربة من دائرة الجمارك البلجيكية كيف تم تهريب تمثال فرعوني يقدر ثمنه بمليون يورو تحت بند "تحف ديكور" بقيمة 120 يورو فقط!
لكن أخطر ما في الكتاب هو كشفه عن "صناعة التزوير" المنظمة في بلجيكا، وهنا لا نتحدث عن أفراد يحاولون خداع السوق بقطع مزيفة، بل عن شبكات دولية تمتلك مختبرات متطورة وورش عمل محترفة. ويصف الكاتب كيف اكتشفت الشرطة البلجيكية ورشة لتزوير الآثار المصرية في قبو أحد الغاليريهات الفاخرة في حي السابلون الراقي في بروكسل، والتي كانت تُباع بعد ذلك بمئات الآلاف من اليوروهات، بل إن بعضها وجد طريقه إلى مجموعات متحفية شهيرة. يقول ستايسنز: "كان المشهد أشبه بفيلم رعب، عشرات من الأقنعة الذهبية الفرعونية المزيفة، والمغمورة في أحواض من البول البشري، لأن العصابات اكتشفت أن هذه الطريقة تساعد على خداع اختبارات الكربون المشع التي تحدد عمر القطع الأثرية".
في تحليله لمجمل الأسباب التي جعلت بلجيكا مركزًا لهذه الأنشطة الإجرامية المتعلقة بالاتجار في الآثار وتزييفها، أو ما يسميها الكاتب بـ"مستودعات بروكسل السرية"، التي تتحوّل إلى "مقابر للآثار"، تخزن فيها القطع المسروقة لسنوات حتى تنقضي آجال التقادم القانوني، أو حتى يتم تزوير أوراقها. يقول ستايسنز إن القانون البلجيكي يحتوي على ثغرات كبيرة تسمح بذلك، ويضيف: "في بلجيكا، يمكنك شراء وبيع القطع الأثرية دون الكشف عن هويتك، ويمكنك تخزينها في مستودعات سرية لسنوات دون أن يسألك أحد عنها"!
يشرح ستايسنز أن الجرائم تختلف باختلاف قطاعات الفن، لكن النظام المغلق الذي يعمل فيه الأشخاص أنفسهم بصفة بائعين ومشترين وخبراء وموثّقين وناشري كتالوغات لقطعهم الخاصة، يُسهّل استغلال الثغرات، خاصة في مجال الآثار، حيث توجد منظمات إجرامية متكاملة، مكونة من المورّدين الذين يجلبون القطع، والمخزّنين في مستودعات فنية سرية، والمزورين الذين يصنعون وثائق وأختام مزيفة لتوثيق القطع، والعارضين في صالات المزادات والمعارض، ونهاية بالوسطاء الذين يمررون القطع لتجار آخرين، ثم تُنقل هذه القطع إلى باريس أو نيويورك أو لندن، حيث يصبح تتبّعها مستحيلًا تقريبًا. "نحن أمام إجرام قائم على الكذب"، وفق المؤلف.
الكتاب أيضًا يلقي الضوء على الدور المشبوه لبعض الخبراء والمختبرات التي تصدر شهادات التقييم. ستايسنز يروي قصة مثيرة عن مختبر ألماني كان يصدر شهادات تقييم لقطع رخامية باستخدام تقنية الـ"ثيرمولومينيسنس" التي لا تصلح إلا لتحليل السيراميك. "كانت هذه الشهادات المزورة تباع بمئات الآلاف من اليوروهات، وتستخدم لتضليل المشترين وتضخيم أسعار القطع المسروقة".
ربما يكون الجزء الأكثر إثارة للصدمة في الكتاب هو تناوله تواطؤ بعض جامعي التحف الأثرياء، حيث لا يتردّد ستايسنز في الكشف عن أسماء بعض هؤلاء الذين يصفهم بـ"المتاجرين بتراث الشعوب"، يقول: "هناك جامعون يعرفون جيدًا أن القطع التي يشترونها مسروقة، لكنهم لا يهتمون طالما أنهم سيحصلون على شهادة مزورة تثبت ملكيتهم لها".
أحدث الكتاب ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية والقانونية في أوروبا. بعض النقاد اتهموا ستايسنز بالمبالغة، بينما أشاد آخرون بشجاعته في كشف هذه الحقائق. المثير أن الكتاب أدى إلى تحركات رسمية، حيث أعلنت الحكومة البلجيكية عن تشكيل وحدة خاصة لمكافحة جرائم الفن، كما بدأت عدة متاحف في مراجعة مجموعاتها الأثرية، والإعلان عن رد بعضها إلى بلدانها.
* شاعر ومترجم مصري مقيم في بلجيكا