أربعة كُتّاب أسرى خارج السجن الإسرائيلي.. بينهم باسم خندقجي

16 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 07:03 (توقيت القدس)
كميل أبو حنيش بعد الإفراج عنه، القاهرة 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2025 (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أُطلق سراح أربعة كتّاب فلسطينيين بارزين، باسم خندقجي، كميل أبو حنيش، ناصر أبو سرور، وخليل أبو عرام، الذين حوّلوا تجربة الأسر إلى فعل نضالي من خلال الكتابة، معبرين عن الحرية ومقاومة الاحتلال.

- ناصر أبو سرور وكميل أبو حنيش قدما أعمالاً أدبية وفكرية تربط بين الحرية والمعرفة، بينما خليل أبو عرام ركز على الدراسات النقدية للحركة الأسيرة.

- باسم خندقجي كتب أعمالاً بارزة مثل "مسك الكفاية" و"قناع بلون السماء"، مسلطاً الضوء على الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ومقدماً مقاربة عميقة للنضال والذاكرة.

أفضت الأيام الفلسطينية الأخيرة إلى إطلاق سراح أربعة من أبرز الكتّاب الأسرى ممن أمضوا عقوداً في السجون الإسرائيلية بعد أن حكمهم الاحتلال بالمؤبدات، وهم باسم خندقجي، كميل أبو حنيش، وناصر أبو سرور، وخليل أبو عرام.

ينتمي الأربعة إلى جيل من المناضلين واصل المقاومة من داخل الزنازين، عبر الكتابة التي صارت امتداداً للفعل السياسي والنضالي، وتحولت إلى جسر بين القيد والحرية، حيث كسر هؤلاء أسوار المعتقل من خلال القدرة على تحويل الأسر إلى لغة، والعزلة إلى معرفة. فهم يكتبون من الداخل، لا عن السجن فقط، بل عن الحرية باعتبارها فعلاً يومياً للوعي، ومقاومةً ضدّ كل أشكال الإبادة البطيئة التي تمارسها إسرائيل على الوجود الفلسطيني.

الأقدم في السجون من بين الأربعة هو ناصر أبو سرور، المعتقل منذ عام 1993 والمحكوم أيضًا بالمؤبد، ويُعدّ أحد الأصوات الشعرية والروائية التي صاغت من السجن فضاءً إنسانياً عميقاً. إذ أصدر ديواناً بعنوان "السجن وأشياء أخرى"، ورواية "حكاية جدار" التي بلغت القائمة الطويلة في جائزة البوكر العربية، لتتجلى في أعماله التجربة الأسيرة بصفائها الرمزي، حين يتحول الجدار من رمز للعزلة إلى مرآة تعكس الإنسان في أكثر حالاته هشاشة وتمرّداً. عُرف أبو سرور بنشاطه الثقافي داخل السجون، ومشاركته في المبادرات التي جمعت الأسرى حول مشروع الكتابة بوصفه فعل تحرر جماعي.

أما كميل أبو حنيش، المعتقل منذ عام 2002، فجمع بين الفعل السياسي والإنتاج المعرفي، وكتب خمسة عشر كتاباً في الفكر والأدب، من بينها روايات "خبر عاجل"، "بشائر"، "الكبسولة"، "الجهة السابعة"، و"تعويذة الجليلة". وله مؤلفات نقدية وفكرية منها "جدلية الزمان والمكان في الشعر العربي"، و"إسرائيل دولة بلا هوية" (بالاشتراك)، و"الكتابة والسجن: عالم الكتابة في السجن".

ويُنظر إلى تجربته بوصفها نموذجاً للمثقف المقاتل الذي يرى في الأدب وسيلة لاستمرار المقاومة داخل المكان المغلق، وقد أسهم في تأسيس خطاب ثقافي أسير يربط بين الحرية والمعرفة، وبين التجربة الفردية والمصير الجمعي الفلسطيني.

يكتبون من السجن، عن الحرية باعتبارها فعلاً يومياً للوعي

من جهته، اعتقل خليل أبو عرام عدّة مرات كان آخرها خلال انتفاضة الأفصى، ونال في السجن درجة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية، وألّف مجموعة من الدرسات والكتب منها "القدّيس والخطيئة"وهو دراسة بحثيّة حول الحركة الأسيرة من الداخل، عبر نقدٍ صريح للتجربة التنظيمية والفكرية داخل السجون، وكشف تناقضات القداسة الثورية مع الممارسات اليومية، داعياً إلى مراجعة الذات وتحرير الوعي الأسير. يمثل العمل شهادة فكرية جريئة تسعى لإصلاح التجربة النضالية من قلب الأسر.

أما الثالث فهو باسم خندقجي، المولود في نابلس عام 1983، والذي اعتُقل سنة 2004 وهو في مقتبل العشرينات أثناء دراسته في جامعة النجاح، وحُكم عليه بثلاثة مؤبدات. واصل تعليمه داخل السجن، وكتب دواوين شعرية وروايات أصبحت علامات في الأدب الفلسطيني المعاصر مثل "مسك الكفاية: سيرة سيدة الظلال الحرة"، "نرجس العزلة"، "خسوف بدر الدين"، "أنفاس امرأة مخذولة"، و"قناع بلون السماء"، التي فازت عام 2024 بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، وأخيراً "سادن المحرقة".

تتجاوز تجربة خندقجي، مثل رفيقيه، المفهوم الفيزيائي للسجن، وتقفز أعماله فوق حيز التنميط الذي أراده الاحتلال قيداً إضافياً يغلق على المقاومين المبدعين، عبر اتهامهم بالإرهاب وإغداق الأحكام بالمؤبدات. فأن تكون كاتبًا في المعتقل يعني أن تتحول زنزانتك إلى فضاء للتأمل، وإلى مساحة لإعادة التفكير في معنى النضال، في الذاكرة، وفي الزمن الفلسطيني المعلّق بين المجزرة والمقاومة.

عاش خندقجي، منذ أكثر من عقدين، داخل أقصى درجات العزل، لكنه استطاع أن يحوّل التضييق إلى شكل من أشكال الممارسة الفكرية النشطة، فلم يكن القيد عنده انقطاعا عن العالم، بل وسيلة للنفاذ إلى جوهره.

في أعماله تتقاطع الذات مع التاريخ، والأسطورة مع الوثيقة، ويظهر لا بوصفه كاتباً فقط، بل منقّباً في أعماق الوعي الفلسطيني. وبالتوازي مع العمل الإبداعي، تقدّم مجلة الدراسات الفلسطينية نتاجاته البحثية، حيث يتحرّى جوهر الصراع المعرفي والسياسي في فلسطين، مثل دراسته عن "أثر السياسات المعرفية في الخطاب البحثي الأكاديمي"، وبحثه في "الإبادة الفردية في فلسطين المستعمَرة"، الذي يقدّم مقاربة عميقة تربط بين النزعة الاحتكارية للصهيونية والمركزية الأوروبية في تعريف العنف والمعاناة والضحية.

يذهب خندقجي في هذا البحث إلى أبعد من توصيف الفعل الاستعماري بوصفه احتلالاً للأرض، ليراه مشروعاً إبادياً متواصلاً، لا يستهدف الجسد فحسب، بل الذاكرة والوعي والهوية. ويستخدم مصطلح "الإبادة الفردية" ليصف به آلية القتل اليومي غير المعلن، الذي يُمارَس على الفرد الفلسطيني عبر السيطرة والمراقبة والعزل، في ما يشبه إبادة متقطعة لا تنتهي. ويربط هذا الفهم الجديد بتقاليد الاستعمار الأوروبي الحديث، الذي أنتج تصنيفات "الضحية" و"الجلاد" وفق مركزيةٍ عرقية وثقافية جعلت الفلسطيني خارج حدود الإنسانية الغربية المعيارية.

هذا الوعي البحثي يظهر أيضاً في روايته "قناع بلون السماء"، لكن بصيغة سردية متخيّلة. تحكي الرواية عن نور، الباحث الفلسطيني الذي ينتحل هوية باحث إسرائيلي ليتسلل إلى الحفريات الأثرية في فلسطين المحتلة، بحثًا عن الآثار التي تثبت الوجود الفلسطيني في الأرض. غير أن المفارقة تكمن في الجزء الثاني من الرواية، حيث ينقلب المنظور ويصبح الباحث الإسرائيلي هو من يتحدث، ليجد نفسه في مواجهة الأسئلة ذاتها: من يملك الأرض؟ ومن يملك التاريخ؟

بهذا التقابل بين الصوتين الفلسطيني والإسرائيلي، يخلق خندقجي حواراً متخيّلاً يُذكّرنا بالمواجهة الفكرية التي أقامها سعد الله ونوس في مسرحيته "الاغتصاب"، حين جمع الفلسطيني والإسرائيلي في فضاء واحد ليسائلا بعضهما عن مآلات الصراع، وعما تصنعه العنصرية حين تتحول إلى دولة عدوانية، وعن الأنظمة التي تتهافت لتقديم التنازلات لها وإسكات أصوات الضحايا.

نرى أثر التفكير في "الإبادة الفردية" حاضراً بوضوح: نور يحفر في الأرض كما يحفر الباحث في المفاهيم، والاحتلال لا يُواجه بالسلاح فقط، بل بالمعرفة، بالحفر في البنية التي تصنع "الحقائق الرسمية". إن العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي في الرواية ليست مجرد مواجهة بين ضحية وجلاد، بل هي تجربة معرفية متبادلة، يكشف فيها كلّ منهما عن هشاشته الإنسانية أمام سؤال الأصل والحق والتاريخ.

لقد حوّل خندقجي السجن إلى ورشة مصغّرة تنتج الأدب والبحث في آنٍ، ولعل هذا ما يمنح كتاباته بعدًا يتجاوز حدود الأدب الفلسطيني الأسير إلى مساحة التلقي الإنساني الأوسع، حيث يتم البحث عن معنى الحرية في زمن المراقبة، وعن معنى الإنسانية في زمن الإبادة البطيئة.

* شاعر وناقد سوري مقيم في فرنسا

المساهمون