أحمد شوقي.. نسينا الشاعر واحتفظنا بالتمثال

أحمد شوقي.. نسينا الشاعر واحتفظنا بالتمثال

31 أكتوبر 2021
أحمد شوقي في بورتريه لـ أسامة الحرك (العربي الجديد)
+ الخط -

لمّا كان والدي من سمّيعة محمّد عبد الوهاب، فإن حضور ديوان أحمد شوقي (1868- 1932) في مكتبة الأُسرة يمثّل أحد طقوس هذا الانتماء. بين دفّتي مُجلّديْ "الشوقيات"، نَعرف بدقة مواقع القصائد التي تحوّلت إلى أغان - لأم كلثوم أيضاً - حتى لو كانت مقاطع مختبئة في بطون قصائد أطول. كانت "سلوا قلبي"، و"يا جارة الوادي"، و"جبل التوباد"، و"مضناك جفاه"، و"سلوا كؤوس الطلا"، وأوبريت "مجنون ليلى"، تشكّل ذائقتنا على مقاس إنائها وتتحوّل إلى معايير جمالية لعلّها لا تزال متسرّبة في الكثير من رؤيتنا للعالم اليوم.

لكنْ لـ"الشوقيات" مقام خاص يتجاوز هذا الارتباط. يأخذ الديوان، بطبعته الفاخرة، موقعاً تبجيلياً لا تحتله في مكتبتنا - والأمر ذاته في مكتبات كثيرة - إلا كتب قليلة مثل ديوان المتنبّي ونهج البلاغة ورسالة الغفران. وهي مكانة كلما تأمّلتُها وجدتُ أنها تشبه المقام الذي كان يوضع فيه شوقي من قبل معاصريه (في ما عدا البلاط الخديوي)، وقبل أن يتجرّأ عليه "جماعة الديوان"، ثم يُسحب منه أكثر من بساط، مع التحوّلات الاجتماعية والثقافية العميقة وانعكاساتها في تاريخ الشعر العربي المعاصر.

لقد فتَرت منذ عقود قراءة أحمد شوقي. ربما لا يزال يحتفظ بمكانة في قلوب كثيرة، لكن ذلك القارئ المنهمك بعقله وروحه قد هجره. لم يعد النص يلبّي احتياجات كثيرة طارئة لم تكن موجودة في بدايات القرن العشرين. أيضاً من الجليّ أن الباحثين في الأدب قد هجروه، فمع هؤلاء لا تظهر تجربته إلا كقطعة متحفية يعترف الجميع بوجوه كثيرة من روعتها لكن قلما يُقبل عليها من يبتغي أن يعيد تذويبها في الحاضر وإعادة شحنها بالمعنى. حتى عبد الوهاب وأم كلثوم فعلا ذلك من قبل، فمنذ الخمسينيات انتقلا إلى أداء كلمات شعرية في مساحات بعيدة عن شوقي، ولا يخفى أن القطيعة مع زمن ما قبل "ثورة يوليو" كانت تفرض ذلك، ثم أتت طبقات أخرى من الأحداث؛ دوامات الحروب وجنون الانفتاح وغيرها، فطمرت شعر شوقي وذهبت بمذاقه، ولعل الأصح أنها ذهبت بالذائقة التي كانت تجذب القرّاء إليه.

يحتفظ شوقي بمكانته وألقابه ولكن قلما يزوره أحد أو يُحييه

حين فسّر مؤرّخ الأدب الفرنسي جان روهو أسباب تقلّص الكتابة حول ثيمة البطولة منذ القرن السابع عشر بعد أن كانت غالبة على الأدب، أشار إلى أن الذهنية العامة للعصور الحديثة بدأت تفقد معنى البطولة في الحياة اليومية، وبالتالي فإن المنتج الأدبي الذي يستحضر هذا المفهوم أصبح يخاطب أذناً غير صاغية. هل حدث ذلك مع أحمد شوقي؟ هو الذي يحفل نصّه باستحضار البطولات من الماضي البعيد، وتحفّ بقصائده النزعات الملحمية والوثوقية والوطنية وتمجيد الشخصيات، من الفراعنة إلى زعماء الاستقلال، مما لم يعد ضمن انتظارات قارئ اليوم. وعبر هذه الفجوة نفهم بعض تحوّلات القيم في بلداننا، فالأوتار التي كان يضرب عليها الشعر فتحرّك النفوس لم تعد تُصدر صوتاً أو تكاد.

لا أدري إن كانت المدرسة اليوم تضخّ شيئاً من شوقي في عقول الأطفال. أما أنا فما زلتُ أذكر واجب حفظ "أيها العمّال أفنوا العمر كداً واكتسابا" أو "قم للمعلّم وفّه التبجيلا" وكأنني سأمتحن فيهما يوم غد. كيف لهذه النصوص أن تعيش إلى اليوم في ذاكرتي؟ ما الذي يجدّد حفظها ويُقصي نصوصاً أتت بعدها؟ ربما كانت المدرسة قامعة في أيامنا، لكنها كانت تقدّم خدمات جليلة لوعينا وتخلق معالم في أعماقنا الروحية والفكرية تربطنا بالزمن وبالجماعة الثقافية التي ننتمي إليها. وقد كان شعر شوقي مطواعاً لهذه الأدوار، ولا شكّ لديّ في أنه كان واعياً بذلك، وهو الذي تصدّى لإنجاز مشروع القصيدة المَثَلية التي تأتي على لسان الحيوان قياساً على تجربة لافونتين في فرنسا، وأبعد من ذلك "كليلة ودمنة" في تراثنا العربي.

لم يكن من الممكن أن نكبر من دون أن نخلع بعضاً من ذلك الوعي الأوّل، وحين نعود وقتها إلى شعر شوقي سنجد أنه قد تغيّر. لا شكّ في أن أصداء من نزع الأسطرة قد وصلتني، ولكن بغض النظر عن خطاب مدرستيْ الديوان والمهجر، حين عدتُ إلى "الشوقيات" بعد سنوات وجدتُه قد تحوّل إلى كتاب تاريخ. كان الشاعر المصري يدوّن الأخبار ويبني الشخصيات التاريخية ويصف الأماكن كما يفعل المؤرخون فلا يختلف عنهم إلا بالهندسة العمودية للنص. يكفي أن تقرأ القصيدة التي افتتح بها الديوان؛ "كبار الحوادث في وادي النيل"، حتى تقف على مشروع تاريخي لعلنا لن نجد مثيله عند مؤرخين محترفين في عصره. ولا ندري إن كانت مصادفة أم فعلاً مقصوداً أنه جعل الهمزة رويّاً لهذه القصيدة بحيث يُصافح القارئُ الشاعرَ على أرضية هذا المشروع بالذات بمعماره الفرعوني ومعجمه العربيّ الفخم.

من مفارقات ثقافتنا هذا التعامل الذي يمزج بين التقدير والنسيان

في كتاب "الشوقيات"، بوصفه كتاب تاريخ، لا تزال العبارات والإيقاعات تُطربُ ولكن المادة الملموسة باتت معرفية، يتذوّقها العقل قبل القلب. أما أذن القارئ فهي دائماً مُدلّلة مع صاحب "أنا من بدّل بالكتب الصحابا". ولا بدّ هنا أن ننتبه إلى لعبة "المعارضات" التي كثيراً ما دُرست من منظور تقني أسلوبي، في حين أننا لو استعملنا مفردات نظرية حديثة لقلنا إن "الشوقيات" تقترح علاقات تناص مباشرة مع عمق التراث الأدبي والحضاري لثقافتنا، وهي تقودنا إلى أصفى ما في الشعر العربي؛ عينية ابن سينا؛ "البردة" للبوصيري، سينية البحتري، نونية لابن زيدون، وأشياء من أبي نواس والمتنبي وأبي تمام وغيرهم.

كانت تجربة جريئة لكنها لم تُنجب تراكماً بعدها. لم يلتقط الحبل شعراء آخرون، ولم يضئ المؤرخون والنقاد دلالات حول هذا المشروع الفرعي في شعر أحمد شوقي، كما لم يُفسَّر سبب انطفاء تلك العلاقة المتينة مع النص الشعري العربي في تجارب الأجيال اللاحقة. لم يُضأ كل ذلك كما لم تفصّل نقاط كثيرة أخرى، فلا نجد انكباباً في فهم العلاقات بين عصر النهضة العربية (بوجهه السياسي والفكري) وشعر أحمد شوقي وكأنهما لا يتقاطعان في زمن واحد. لنحاول على الأقل أن نفهم سر ذلك التدفّق الإبداعي الذي انطفأ في عقود لاحقة. كما لا نقف على من يفسّر تحوّلات الإشباعات التي تنتظرها المجتمعات من الشعر، وكيف كان لشعر أحمد شوقي ذلك الأفق العربي الواسع، والقدرة التوجيهية، فيما تنحسر معظم التجارب اليوم في قواقعها المحلية.

أيضاً، لا نعثر على محاولات فهم متعمّقة حول التغيّر السريع لتلقي النقاد لمدونة أحمد شوقي في عصره، فانقلبت صورته منذ أن أثبت بعضهم أن من سُمّي "أمير الشعراء" ليس إلا "شاعر الأمراء". ثم لا نجد تعمّقاً في فهم ارتباطاته بالثقافة الفرنسية التي نهل منها بشكل واضح، ولنفهم خصوصاً عملية انتقاء المؤثرات ففي حين أن الكثير من فيكتور هوغو ولو كونت دوليل بارز في اللغة والمضامين، لن نرى تجارب أخرى عاصرها في فرنسا ذاتها، وكانت مثل مرجل تُطبخ فيه الحداثات؛ الأدبية والبصرية والفكرية.

في المجمل، حوصر شوقي في عالمه الأول. لا يخرج منه إلا ليدلّ عليه. دائرة مغلقة يحتفظ فيها بمكانته وألقابه ونياشينه مثل أمير جرى الانقلاب على والده، لا أحد يؤذيه ولكنه لم يعد ضمن معادلات الفاعلية والحضور. يُختزل شوقي اليوم في مجموعة من المعلومات المكرّسة في الثقافة العامة، قلما تُفحص بل قلما يعاد ترتيبها.

دماء كثيرة يمكن أن تضخ في عروق هذه الشخصية من تاريخنا الأدبي. لماذا لا يزوره المؤرخون، وكتّاب السيرة، وحتى كتّاب التخييل، من روائيين وصنّاع دراما؟ وقبل هؤلاء الشعراء؟ لماذا تعطّلت حتى الإحالات إليه، كتقنية ثقافية تتيح استمرار الذاكرة الأدبية ضمن دورة الحياة. مع افتقادنا لكلّ ذلك، يبدو شوقي اليوم كتمثال جفّت المادة التي صُنع منها فاستقرت صورته في قالب نهائي.

من مفارقات ثقافتنا هذا التعامل الذي يمزج بين التقدير والنسيان، وأحمد شوقي في ذلك أشبه بمتقاعد قام بدوره في مرحلة ما من حياة الشعر والمجتمعات. حتى في المكتبة الأسرية، صحيح أنّ ديوانه لا يزال يحافظ على مكانته، فهو الآن في أعلى رف، لكن أن يكون كتاب في ذلك الموضع المرتفع فهذا يعني أنّه قليل الحظ من الاستعمال.

المساهمون