أحلام يبعثها الشغَب في تراب المدينة

24 يناير 2025
عارف الريس/ لبنان
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الزمن والضوء في الوعي والتأمل: يوضح النص كيف يكشف الضوء عن أعماق خفية وزمن غير مرئي، مشيراً إلى أن الحلم واليقظة هما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يحتاج للضوء ليكشف عن جوهر الشعور.

- التمهل كجوهر الحياة: يشدد النص على أهمية التمهل كأصل للحياة، مشبهاً ذلك ببحيرة تحت الثلج تستيقظ بهدوء، مما يعكس فلسفة التوازن والانسجام مع الزمن.

- المدينة كرمز للغموض والجمال: تصف المدينة ككيان مليء بالغموض والجمال، حيث تتداخل الأحلام والواقع، مما يجعلها موطناً للأسرار والقصص التي لا تنتهي.

الزمن - الضوء

أن تستغرقي دقائق، تبدو أبديّةً، في تصوير تُفّاحة صفراء لفحتها الشمس، وهي تستلقي في حوض من الضوء المحض - هذا هو الوعي بالأشياء كما هي؛ قضمةٌ واحدة وينكشف للعينين بحرٌ كان حتى اللحظة خبيئاً، لأنّ موجَه صامتٌ كالجليد؛ حيوات عديدة تنام في أعماقه المَطويّة ولمّا يحِنْ وقتُها. كالوعي بالعالَم هو، حين تغوصين في سريرك قرب نافذة يجلّلها ستار معدنيّ تغوص صفائحه التي تتراقص عليها الأشعّة في جسد الصباح أو أوائل الظهيرة، تعصرُه جيّداً ليُفشي بأناةٍ عمّا يَجول في نواته البعيدة، فينزّ منها الزمن - الحُلم والزمن - اليقظة الكاملة. أليس الحلم واليقظة الكاملة صِنوَين؟ كلاهما يحتاج الكثير من الضوء؛ الكثير الذي يُشبه القليل، يحمل أُسَّ الشعور، كما يكون حين يبدأ، حين لم يكُن قد اختَلط بعدُ بالأشياء.


■ ■ ■


في البدء كان التمهُّل 

في البدء كان التمهُّل، وأيضاً في المُنتهى، لأنّ الأناة أصلُ العالَم وحافظه. يُقال لولا الأناةُ لهلكنا جميعاً. تنامُ البُحيرة تحت الثلج ستّة أشهر ثم تستيقظ. ماذا تفعل حين تستيقظ؟ تُتابع الجريان نحو مصيرها مع همهمات الموج المتلألئ كأنّها لم تتوقّف إلّا البارحة. لا تثور لكي تُعوّض ما فات، لا تجد لنفسها طريقاً التفافياً، لا تُحاول مُحاصرة البلدات المتّكِئة على قدميها لكي تُعاجِل الشتاء التالي بما لم يأخذه في الحُسبان؛ تموج فقط كما كانت أبداً، تتقلّب بين الزُّرقة والخُضرة وتواشيح الأرجوان، ثم تذهب أيضاً لتنام مطمئنّة.


■ ■ ■


المعمودية

"يتغسّل" المسيح الليلة
مُتمهِّلاً يغوص في الماء
يُلملم الحصى الأبيض
ويخرج مشدوهاً أمام عرائس الزيتون تتوشّح الفضّة.
وحين يبتعد عن الأصدقاء
تَخِز الأصوات صدغيه المبلّلين
من خلفه وأمامه ومن بين الشُّهب،
يميّز النَّغَم الأثير من بينها
يحفره في أضلاع الذاكرة قبل أن يتلاشى.
ويرتجُّ الروح أخيراً
يتنفّس من خلف القمر:
أسمعتَ أخيراً ابنتي الحبيبة؟


■ ■ ■


عيد

الشُّرفة ضيّقة والعالَم أخضر السّواد. أستطلع المدينة التي بلا نهاية. وأنت خلف ظهري على الكنبة، تقرأ خطّ يدك من دفترك العتيق. أعرف كيف تكون حين تتلو حكايات الأبواب المواربة وأساطير الأنواء. تحت وطأة بريق الليل، يرتفع، يهدر، لا أسمع، ولكنّني كامل الحضور وأفهم أعماق ما تقول.


■ ■ ■


سراب

هنيئاً لك هذه الخفّة التي احتلّتك بعد مغادرة الجمع.
وهنيئاً لي هذا القصر الغريب الذي بقي مفتوحاً لنا لنتجوّل في أرجائه.

نظرة الرضا والشرود والمجهول الأبدي في الوجه بركةٌ أخيرة لم أطلبها، وحبٌّ راسخ لا يحوّل إليّ ناظريه، ولكنه يفيض ويطغى.

لا تخرجين عن صمتك المليء الكافي إلا لتطبعي قُبلةً وحيدة، بركاناً، ثورة لحظة، على أعلى العنق المرتاح، على الأُذن التي ينفجر طنينها، ثم تتابعين الشرود الراضي. وأنا أردّها وأقول: ها قد تمّ. ولكنني أعلم أن القمر لن يكتمل. تلك المزقة من النور، لن توهَب. لن توهَب!

لا تنبسين. لأنّ عينك مكتملة وقلبك لا يخاف الوقت.
والقصر لا ينتهي
والقصر زلزالٌ خَبا.
يا الله ما أجمل الأشياء في نقصانها!


■ ■ ■


جَشَع

لا أشبع من تلك المدينة ولا أكتفي من مجاهلها... تتناسل بلا نهاية، شرنقة داخل شرنقة، أو سديماً داخل سديم، أو صلابة محسوسة تتناوبها فصول التغيّر، تذكّرني بتعدّد جسدك وأطوار طراوته وأمزجتها، من العُري وصولاً للاحتجاب، من النداوة إلى قمّة العناد، من الأَناة حتى عُمق البركان.

لا أشبع من المدينة لأنها جريانٌ في الثبات، وبسمةٌ في ثَغر مُخاتل، ونظرة رؤوفة في عين لا تشاء أن تكشف عن معناها. المدينة سماء أيضاً لأرض أُخرى، موطنٌ لأقوام غير الأقوام، ومسرحية مختلفة في كواليس مسرحية النهار. 

أخرُج من باب وأدخل آخر، وأتعجّب من لعبة المرايا: ظهوراتُك غير المنتظمة التي يستعصي التنبُّؤ بها، عطرُك الذي يلفحني في أكثر الفضاءات استحالة وغرابة عنك، مشية تُشبه ميلان قوامك وطرافة اختراقه لحياة المدينة - كيف يمرّ بسلام بين شرايينها فلا يُصيب فؤادها إلّا باضطراب بسيط لا يتوانى عن التبدّد.

لا أشبع من المدينة لأنها أسواق طويلة مفتوحة لكي تكون مجرّةً لفضولك الذي لا يهدأ وشغبك المستفزّ، ويحلو لي أن أسترسل في تصوّر الأحلام التي يبعثها هذا الشَّغَب في تراب المدينة ونسيج ذاكرتها.

قارّة أبدية بعيدة عن كل جيوش العالم هذه المدينة، ومن يعثر على أول الدرب إليها؟


* شاعر وكاتب سوري مقيم في السويد

المساهمون