أحلام الفنانين أحياناً.. سفنٌ ترحل من موانئ لا وجود لها

أحلام الفنانين أحياناً.. سفنٌ ترحل من موانئ لا وجود لها

05 يونيو 2021
("قيم شخصية" لـ رينيه ماغريت، 1952)
+ الخط -

يؤدي الفنّ، سواء كان رواية أو شعراً أو تشكيلاً أو مسرحاً، نوعاً من وظيفة تندر الإشارة إليها. ولكنْ تحدّث عنها، لحسن الحظّ، عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ (1875-1961)، المنقطع عن تأويلات عالم التحليل النفسي النمساوي سيغموند فرويد (1856-1939) للأحلام (الشائعة في الثقافة العربية) والمستقلّ عنه في قوله بأن وظيفة الأحلام الأساسية هي إعادة توازننا النفسي عن طريق إنتاج مادّة حلمية تعيد تأسيس المعادلة النفسية بتمامها.

وينعطف يونغ إلى الأعمال الفنية فيراها تؤدّي هذه الوظيفة. ويرجع السبب إلى أن هذه المنتجات هي "أحلامُ" فنّانين يحاولون إنتاج مادّة تعيد تشكيل المعادلة النفسية. يذكّرنا هذا، بالطبع، بمفهوم فعل "التطهير" الذي يمارسه المسرح اليوناني المأساوي على مَن يشاهده، حسب أرسطو في كتابه "الشعرية". وقد نأخذ هذا الفعل مأخذ فعل "التحرير"، تحرير المخيّلة والعقل ممّا استقرّ فيهما بحُكم العادة والتقليد، وهو ما نظنّ أن هذا الفيلسوف قصدَه منذ القِدَم بمصطلح "التطهير"، حين أطلقه وترك للشرّاح والمفسرين أن يغرقوا في لجّته. ويمكننا الآن أن نجد له صِلة بحلم الفنّان، مع فارق ذي دلالة ومهمّ جداً.

صحيحٌ أن يونغ يعتبر الحلم تعبيراً عن العقل الباطن، مثل صاحبه فرويد، الذي غادر يونغ تعاليمَه في ما بعد، إلّا أن هذا العقل لديه ــ وهنا يقدّم أبرز كشوفه تنويراً ــ ليس مجرّد خزّانٍ لما مضى، بل هو حافلٌ ببذورالأفكار والمواقف النفسية المستقبلية أيضاً. ويلاحِظ أن ساحة اللاوعي تُنتج، في أحيان كثيرة، أفكاراً جديدة والتماعاتٍ إبداعية لم تعرفها من قبل، وتنمو هذه الأفكار والالتماعات مثل زهرة تتفتّح، وتشكّل الجزء الأكثر أهمّيّة من النفس الواعية. على هذا الأساس، لا يمكن تفسير الكثير من صور الأحلام وأفكارها بمصطلحات ذاكرة الماضي وحدها؛ لأنّها تعبّر عن أفكار جديدة لم تصل إلى عتبة الوعي بعد.

تعبّر الأحلام عن أفكار جديدة لم تصل إلى عتبة الوعي بعد

ومثلما نجد أنّ الأحلام لا تحمل معنىً لمن يريد أن يفهمها حسب خبرته الحياتيّة العاديّة المسبَقة، فيميل إلى اهمالها أو القول بأنها تحيّره، كذلك يحدث أن نجد "أحلام" الفنّانين محيّرة وغير مفهومة لدى الذين ينظرون فيها ويريدون فهمها حسب خبرات حياتهم العادية المسبقة، أو حسب قراءاتهم وأبصارهم التي شكّلت في أذهانهم صوراً أصبحت تتحكّم في زاوية ومدى نظرهم. والملحوظ أن هذه "الأحلام" ــ كما تُكتب الآن في الرواية والشعر العربيّين، أو في فن التشكيل والمسرح على وجه الخصوص ــ ليست غير مفهومة أو محيّرة، كما هي أحلام الفنّانين في نظر سكّان خبرات الماضي، بقدر ما أنها مادّة مصطنعة في أكثر من جانب.

فهي تستمدّ نسْغَها من قراءاتٍ نصف مفهومة ونصف مهضومة، وتستمدّ نبرتها من رغبة في التميّز بأيّ ثمن، حتّى لو كان الثمن بذاءةً عقيمة لا قيمة لها، وهذياناً يستمدُّ صاحبُه جرأَته على الإيغال فيه مِن تجاهل معنى الفن أو جهلٍ به؛ الفنّ بما هو شعورٌ بالحياة في أعلى درجات قوّته.

هذا النوع من "الأحلام" ــ الساعي، كما هو ظاهر، إلى تجاوز الإشارة إلى الرمز، والذاهب إلى أبعد ممّا هو مألوف وثابت، إلى ما هو عميق وغامض وعصي على التفسير ــ يستهين بممكنات اللغة، ويستخفّ بأية رسالة إنسانية ممكنة، أو معنىً، سواء كان ممّا يضفيه الفنّان على الوجود من حوله، أو كان وجوداً محيطاً يمنح الفنّان المعنى، كما هو الحال في "إمبراطورية العلامات" اليابانية حسب تأويل رولان بارت لفنّ الهايكو، حيث العالم هو الذي يدلّ والأشياء كذلك، وليس ذا الإنسان.

بل ونجد هذا النوع من الأحلام ينفر من كلّ ما هو واقعي، لا ليغوص في أعماقه، بل ليزعم أن لا مكان له في فنّ الكلمة أو الصورة، أو "لعبة" اللغة، التي هي، في عرف الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين، شبه تطبيق للمَثل الشائع عندنا: "إلعب وحدك ترجع راضياً". كأنّ للغة لعبتها الداخلية، وهي في غنىً عن أن تدلّ على ما هو خارجها. ويجد هذا النوع العابث مروّجين ومنظّرين في أكثر من مكان. والحجّة المكرورة هي الضيق بكلّ ما هو واقعي، أو بكلّ ما له سياق اجتماعي، والتعلق بأذيال نظرية الفرد الخلّاق المبدع ودواخله، الفرويدية بالطبع.

لا يمكن فصل الفنّان عن  الجماعة الإنسانية، مصدر عطائه

مثل هذه الذات التي "تحلم"، أي تكتب "شعراً" و"روايات"، وترسم "لوحات" و"جداريّاتٍ" وتدلّ، هي ذات مصطنعةٌ، شأنها في ذلك شأن أحلامها. لأن لا وجود لها على وجه الحقيقة إلّا في مخيّلة مروّجي فصل الفنّان عن مصدر خصْبه وعطائه، أعني عن الجماعة الإنسانية. والجماعة هنا، تحديداً، هي الجماعة العربية التي تعيش تاريخاً وحياةً فريدَيْن، سواء بمآسيهما أو أفراحهما، ولا يجدان لهما صوتاً في ما يتكاثر من صفحات وما يتراكم من مطبوعات.

بالطبع، لا أحد يودّ أن يتجاهل أنّ كلّ كلمة تمتلك دلالةً تختلفُ قليلاً أو كثيراً من شخص إلى آخر، بل وتختلف حتّى بالنسبة إلى الذين يشتركون في الخلفيّة الثقافية ذاتها، وأنّ سبب الإختلاف، كما يذهب يونغ، هو أن الفرد يتلقّى الكلام حسب سياقه الخاصّ، والأصحّ حسب ما يدلّه عليه عالمه وأشياؤه. ولكنّ مثل هذه الملحوظة الذكيّة لا تصدق إلّا على حالات التفتّت الثقافي، أي حالات تدمير السياقات التي لا يكون فيها الفرد إنساناً إلّا بقدر ما تحتوي ذاتُه على ذوات الآخرين، وحلول سياقات تتشظّى فيها الذات وتتشظّى فيها الجماعة.

أمّا حين نفهم "الذات" ككينونة أنا/آخر ــ وهو ما يُلحّ عليه التعّمق في تجربة الإنسان في هذا الكون، منذ درج على سطح هذا الكوكب ــ فسيختلف الحال، وسنجد أنّ الفنّان، كذرّةٍ منعزلة هائمة تتصادم مع غيرها من الذرّات، ليس سوى نتاج خيالٍ مريض لا يمتّ إلى الواقع بصِلة، أعني واقعنا الإنساني المشترك؛ وأنّ أساس الوجود كلّه يقوم على ما نُسمّيه "العلاقة" أحياناً، وعلى ما يمكن أن نسميه "التمازج" و"الانسجام"، إذا دقّقنا في أنفسنا وفي ما حولنا. ولا تقوم هذه العلاقة، ولا يتحقّق هذا التمازج والانسجام إلّا في سياقٍ. نحن لا شيء خارج السياق. هو الذي يمنحنا هذه الدلالة أو تلك.

تُوهِمنا نظرية الفرد المبدع لأحلامه، أو الكُرَة الفريدة، أو الذرّة المنعزلة، بأنّ لاسياق لنا، سواء كان اجتماعياً أو اقتصادياً أو تاريخياً. ولهذا، فلِأحلامِنا الفنّيّة أن تكون ما تشاء، أن تكون رُكاماً من كلامٍ وصوَر، أو حطامَ سفن ترحل من موانئ لا وجود لها على الخرائط، ولا تسعى إلى أيّ ميناء. وهذا ما تعكسه، بجلاء، الأحلام المصطنعة، أو المصنّعة لاستهلاكِ شعوبٍ هي بأمسّ الحاجة إلى أن تكون لها موانئ تنطلق منها وموانئ تتّجه إليها.

بالطبع نحن مع رفض الخرائط المرسومة الجاهزة، ورفض السفن الجماعية التي يصعد إليها البشر كما تصعد الأغنام. ولتكنْ لكلّ فردٍ خريطتُه البسيطة، وسفينته المتواضعة، ولكنْ مع وعيٍ بأنّ الرحيل هو على البحر ذاته، هذا المشترك الإنساني، لا في بحار وهمية تصنعها تخيّلاتُ تجّارِ رقيقٍ وقراصنة.


* شاعر وروائي وناقد من فلسطين

موقف
التحديثات الحية

المساهمون