"خارطة الأشواق" لمنان كابور: على خُطى آغا شهيد علي

"خارطة الأشواق" لمنان كابور: على خُطى آغا شهيد علي

06 يوليو 2021
آغا شهيد علي عام 1990 (ستايسي تشايز)
+ الخط -

قابَلَ الكاتب والصحافيّ الهنديّ منان كابور أربعينَ شخصيةً من أقارب الشاعر آغا شهيد علي وأصدقائه، وقام بعدّة رحلاتٍ ليزور مدناً متعدّدة في كشمير وفي الهند وحول العالم أيضاً، ليخرج بكتاب سيرة ذاتية حول الشاعر الكشميري الأميركي (1949 ـــ 2001)، منحه عنواناً: "خارطة الأشواق: حياة وأعمال آغا شهيد علي"، وقد صدر بالإنكليزية عن دار "بنغوين راندوم هاوس" (2021).

بدأ منان من الصّفر، وتتبّعَ مساراتِ حياةِ الشاعر، من الطفولة حتى رحيله في الثانية والخمسين في عمره في الولايات المتّحدة، ومن عائلةِ شهيد علي البعيدة، التي تحدّرتْ يوماً ما من المرتزقة القازلباشيّة الفارسيّة في جيش نادِر شاهْ، إلى بداياتِ العائلة في كشمير مع أوائل القرن التاسع عشر، حتى عائلته المقرّبة، من خلال مذكّرات والدته ووالده، آغا أشرف علي، ولقائه معه، وهو المربّي المعروف في كشمير، وأحد مؤسّسي النظام التعليمي فيها بعد الاتحاد مع الهند عام 1947، إضافة إلى مذكّرات الجدّة بيغوم ظفر علي، التي كانت أوّلَ امرأةٍ تحصُلُ على الشهادةِ الثانويّة في كشمير.

البداية إذن من منزل الطفولة، الذي يُدعى "هارموني 3"، وذكريات شهيد علي ولقائه، عندما كان في الحادية عشرة من عمره، بالزعيم جواهر لال نهرو، الذي قال له شهيد علي الطّفل بجدّية: "هل أحضر لكَ شيئاً معي من كشمير؟". ومن أسفار الوالدِ إلى لندن والولايات المتّحدة للتحصيل العلمي، ينتقلُ كابور بعدَها إلى دلهي، التي ولد فيها الشاعر ثم عاد إليها لاحقاً طالباً جامعياً، كما يتوقّف عند بزوغ نجمه كشاعر ناشئ هناك وعند صداقاته.

الشعر أحد الأشياء القليلة التي لا أكذب بشأنها

يقارن منان بين أثر المدينة في شهيد علي وأثرها في الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، الذي زارها في أوائل الستينيات، وكيف سحَرَتِ العَمارةُ باث، حتى شبّهها بصفحاتِ رواية لفيكتور هوغو أو لألكسندر دوماس، بينما فُتِنَ شهيد علي بالتاريخ الذي كان يتنفَّسَه في الشوارع، تلك "الشوارع المرسومة بالدم". أمّا علاقةُ الشاعر بالسينما، وافتتانُه بنجماتها، وعشقُه لمخرجي الموجة الجديدة في السينما الهندية، فقد انعكس كلّ هذا في قصائده، وفي حياته الشخصية أيضاً، حيث التحقَ بعد مشاهدته أحد الأفلام بصفٍّ لتعلّم الرقص الكلاسيكي الهندي، والعزف على السيتار. للموسيقى أيضاً قصةٌ أخرى مع شهيد علي، حيث تعلَّمَ العزف على الهارومونيوم متأخّراً، وكان يذهب إلى أكشاك الموسيقى ليستمع إلى الأسطوانات الباهظة التي لم يكن يتمكّن من شرائها. ولا يمكن الحديث عن الموسيقى دون ذكر بيغوم أختر، الفنانة الهندية التي افتتن بها شهيد علي، وبقيت أغانيها وأداؤها في قلبه وعقله حتى لحظاته الأخيرة.

حفرَ كلٌّ من التاريخ والسينما والقراءة آثاره العميقة في خيال الشاعر، وتغيّرت نظرتُه الرومانسية للأشياء من حوله، وتُوِّجَتْ هذه الرحلة الفكرية الشاقّة بمشاهدته فيلم "الملك لير" للمخرج السوفييتي غريغوري كوزينتسيف، عن مسرحية شكسبير المعروفة، حينما تحوّل شهيد إلى تبنّي نظرة مختلفة تُرَكّزُ على تاريخِ الشعوبِ المُستعمَرة، وليس على حكايات المستعمِرين. 

ينطلق منان إلى دراسة لغة شهيد الشعرية، وآرائه الخاصة باللغة الإنكليزية في شبه القارة الهندية، حيث يبارك دمج التقاليد والأشكال الهندية في الكتابة في اللغة الإنكليزية، حتى يصل شهيد ساخراً إلى القول: "من دواعي سرورنا بالطبع أن نوجِّهَ إهانةً للغة الإنكليزية". ليستطرد في شهادته حول المشهد الهندي الشعري، ويؤكد أن المثقفين الهنود يتكلّمون "ثلاث لغات ويكتبونَ بلغتين، ويحلُمونَ بواحدة، هي الإنكليزية".

الصورة
خريطة الأشواق

ينتقل كابور بعدها إلى سفر شهيد إلى الولايات المتحدة وتعاقبه على جامعات ولاية بنسلفانيا التي حصل منها على الدكتوراه في اللغة الإنكليزية عام 1984، و"جامعة أريزونا" التي حصل منها على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة عام 1985، والذكريات المحيطة بدراسته وحياته الأميركية، وكيف شقّ طريقه إلى عالم النشر، وعلاقاته مع الكتّاب والأدباء الأميركيين والعالميين، ورسالة سلمان رشدي إليه التي تمتدح قصيدته "نصف بوصة من جبال الهيمالايا" وغيرها من القصائد التي لم يكتف رشدي بالاستمتاع بها، بل كان يقرأها لأصدقائه. أدخَلَ شهيد علي شكل كتابة شعر "الغزل" إلى الشعر الأميركي، ودرّس أصوله أكاديمياً في الجامعات، وهو الشكل الذي ابتعد عن المضمون العربي لشعر الغزل، ونحا باتجاهٍ أقرب إلى السوناتة. وبقيَ شهيد شاعراً منفياً أكثر من كونه شاعراً مهاجراً، بفضل التصاقه الشديد بثقافته الأمّ. يقول صديقُ شهيد، الكاتب الهندي أميتاف غوش، إن آغا علي "في تصميمه على ألا يكون مجرد كاتب شعر، بل تجسيداً حقيقياً لرؤيته الشعرية، أصبح برأيي: وريث الرومي أكثر من كونه وريثاً لإليوت وجيمس ميريل".

درّس شهيد علي في "جامعة هاملتون" في كلينتون في نيويورك بين عامي 1987 و1993، وكانت من أقرب زميلاته في الهيئة التدريسية باتريشيا أونيل، التي أشرفت فيما بعد، عام 2014، على "ندوة الشاهد المحبوب: آغا شهيد علي وكشمير" التي احتفت بأعماله، وشاركت في تأسيس "مشروع الشاهد المحبوب"، الأرشيف الرقمي لمقاطع الفيديو لقراءات شهيد علي الشعرية. أمّا مِن طَلَبته، فقد تبعته الروائية الباكستانية كاملة شمسي مع زميلها أنتوني لاكافارو إلى "جامعة ماساتشوستس"، عندما انتقل إليها من "هاملتون"، وتحدّثت شمسي عنه بامتنان شديد، كمدرّسٍ اعتاد على النقد الحادّ بلا رحمة لمسوّدات قصائد ونصوص الطلبة، ولكن هذا النقد لم يكن مجّانيّاً على الإطلاق.

أمّا الشاعر الأميركي جيسون شنايدرمان، والذي كان من طلبته في "جامعة نيويورك"، فقد تحدّث عن استفزاز شهيد علي الدائم والطريف لهم في النقاشات الأدبية، ممّا فتح أمامهم عوالم إنسانية جديدة، وحرّضهم دائماً على تبنّي رؤى مختلفة. ويُفرِدُ كابور فصلاً كاملاً للحديث عن علاقة شهيد علي بالشاعر الأميركي جيمس ميريل (توفي عام 1995)، وكيف تأثّر شهيد علي بكتاباته قبل لقائهما لاحقاً، وكيف كان يحثُّ الطلبة في الجامعة على قراءة قصائد ميريل وتحليلها.

كان لعنوان واحدٍ من كتبه دورٌ سياسي في الهند مؤخّراً

يقرأ الكثير من القرّاء اليوم كتاب "البلد من دون مكتب بريد" ليكوّنوا صورةً حقيقيةً عن كشمير، ربّما لأن الشعر يملأُ الفجوات التي يتركُها التاريخ في أيّ سرديّة كانت. يختم منان كتابه بالحديث عن هذه المجموعة الشعرية التي انتشرت كالنار في الهشيم في الهند، عندما استُخدِمَ العنوانُ مرةً كلافتة احتجاجية في "جامعة جواهر لال نهرو"، للتضامن مع قضية الشعب الكشميري. تردّدَتْ أصداء هذا الحدث في البلاد برمّتها، حتى وصلت إلى البرلمان، حيث ناقش فيه أحد الوزراء العنوان بحَرفيّتِهِ متسائلاً: "هل الهند محرومة فعلاً من مكاتب البريد؟ أيُعقَل أن يقال هذا في ظل القيادة الحكيمة لناريندا مودي اليوم؟". 

الصورة
منان كابور
منان كابور

خلال صفحات الكتاب، لم يغصْ منان في علاقات شهيد علي الخاصّة، أو في تفاصيل ومسائل اعترت حياة الرّجل، ربما لأنه كتب من مقام العاشق لهذا الشاعر والإنسان، ممّا يجعل هذا الكتاب يقترب من كتب السيرة العربية بهذه الصفة التي تنزّه صاحب السيرة عن أي شائبة، وتُؤَمثله ليتحول إلى رمز. ولا ندري بالفعل هل هذا ديدن كتب السيرة الهندية الأخرى، وشبه آخر بيننا وبين سكان شبه القارة الهندية، أم ربما، كما وعد الكاتب، أنه بصدد كتابة سيرة شخصية لشهيد علي قد تحمل المزيد من الإضاءات على هذا الشاعر المتفرّد. يُنهي منان سطورَهُ مقتبِساً وصف شهيد علي الدقيق لنفسه عندما قال: "الشعر أحد الأشياء القليلة التي لا أكذب بشأنها، وقد أكذب في أيّ شأن آخر".

وقفات
التحديثات الحية

المساهمون