"وعد" بلفور ووباء التطبيع في البلقان

"وعد" بلفور ووباء التطبيع في البلقان

08 نوفمبر 2020
(من رسومات ناجي العلي)
+ الخط -

تمرُّ الذكرى السنوية لوعد بلفور (الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1917) على البلقان هذه المرّة في ظروف مستجدّة تركت انعكاسها على "الثقافة السياسية" في المنطقة بعد "الاتفاق التاريخي" الذي تمّ التوقيع عليه في الرابع من أيلول/ سبتمبر المنصرم بالمكتب البيضاوي بين الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش ورئيس الوزراء الكوسوفي عبد الله هوتي، في حضور الرئيس الأميركي (السابق) ترامب. وكان الجديد، أو المُفاجئ للبعض وخاصّةً العرب، هو اعتراف "إسرائيل" باستقلال كوسوفو وافتتاحُ سفارة كوسوفية في القدس المحتلّة خلال الأسابيع القادمة، بينما تُرك لصربيا أن تقوم خلال الشهور المقبلة حتى يوليو/ تموز 2021 بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس المحتلة.

ومع أنَّ الأصل كان الكشف عن "اتفاق تاريخي" لنزاع صربي- ألباني ممتدّ منذ عقود، بل إنّ ترامب سوّق ذلك خلال حملته الانتخابية على أنه نهايةُ "نزاع استمر 400 سنة"، حتى يحصل على ترشيحٍ لجائزة نوبل للسلام، إلّا أنَّ الاتفاق كان مفاجئاً بتجاوزه الأمور السياسية الجوهرية وتركيزه على الجوانب الاقتصادية، وتضمينه عدّة أمور لا علاقة لها بالنزاع (اعتبارُ "حزب الله" منظّمة إرهابية، والانضمامُ إلى الدول التي تحارب معاداة المثلية، وافتتاحُ سفارتَين للدولتين في القدس المحتلة).

مع الكشف عن بنود الاتفاق، الذي كان يؤشّر لاقتراب صربي من الولايات المتّحدة على حساب العلاقات الوثيقة مع روسيا والصين، كان من الطبيعي أن يَحدث انقسام بين من يُعارض "الاتفاق المفاجئ" لأنه يأتي على حساب العلاقة التاريخية مع روسيا والعلاقة الاقتصادية مع الصين، وبين من يؤيّده باعتباره ينقل صربيا إلى الغرب، وبالتحديد يفتح لها الطريق إلى الولايات المتّحدة مع وعود غامضة بترتيبات معيّنة في المنطقة.

كانت صربيا أولَ دولة تؤيد وعد بلفور وتطالب بأكثر منه

وإذا كان الطرفُ المعارِض يركّز على ما جنته صربيا من العلاقة التاريخية مع روسيا، التي خاضت لأجلها عدّة حروب ضد الدولة العثمانية وحتى مشاركة قوّاتها في تحرير بلغراد من الاحتلال النازي في تشرين الأول/ أكتوبر 1944، فإنَّ الطرف المؤيّد للاتفاق يُبشّر بفوائد هذا "الانعطاف التاريخي" للتقارُب والتعاون الأوثق مع الولايات المتّحدة و"إسرائيل".

وفي هذا السياق، ومقابل معطيات الطرف الأول التي مثّلها أخيراً اعتذارُ الرئيس بوتين عن القدوم إلى بلغراد للمشاركة في الاحتفال التقليدي بتحرير بلغراد في الشهر الماضي، نجد أنَّ الطرف الثاني يستدعي من التاريخ القريب علاقات بلغراد الرسمية مع الحركة الصهيونية الصاعدة في مطلع القرن العشرين وصولاً إلى وعد بلفور، ومسارعة الحكومة الصربية إلى تأييده، لتكون صربيا بذلك أوّلَ دولة في العالم تؤيّد هذا الوعد وتطالب بما هو أكثر من ذلك.

وفي الحقيقة، فإنَّ ذلك يرتبط بشخصية يهودية صربية معروفة، هي دافيد ألبالا (1886 - 1942) الذي يُلاحَظ في حياته أنه كان جزءاً من النسيج اليهودي الصربي في بلغراد التي وُلد فيها. ولكن بعد ذهابه لدراسة الطب في فيينا عام 1903 تأثّر هناك بالحركة الصهيونية الناشئة وانضمّ إليها، ثم أسّس فرعاً لها في بلغراد بعد عودته في 1910، وأصبح من الشخصيات المؤيّدة للصهيونية بين يهود صربيا مقابل الاتجاه الآخر الذي كان يدعو إلى الاندماج.

مع اندلاع الحرب البلقانية (1912 - 1913)، انضمَّ إلى الجيش كطبيب عسكري، وكذلك فعل خلال الحرب العالمية الأولى. ولكن مع انكسار صربيا أمام القوات النمساوية في 1915-1916، أقنعَ رئيسَ الوزراء الصربي بأن يُرسله إلى الولايات المتّحدة ضمن وفد حكومي للترويج للقضية الصربية هناك وجمع التبرُّعات للمجهود الحربي الصربي من خلال علاقاته مع زعماء اليهود في الولايات المتّحدة.

طبّعت كوسوفو مع الاحتلال الإسرائيلي الذي اعترَف باستقلالها

وبالفعل، وصل ألبالا إلى الولايات المتّحدة في خريف 1917، حيث نجح في جمع تبرُّعات وقرض عسكري للحكومة الصربية. وفي غضون ذلك، كان اللورد بلفور قد أرسل إلى اللورد روتشيلد رسالته في الثاني والعشرين من شباط/ فبراير 1917. وسرعان ما أدرك ألبالا أهميّة اللحظة لكي تقوم الحكومة الصربية ببادرة ما تجاه اليهود أيضاً حتى تكون مهمّتُه ناجحةً أكثر، وأن يكسب المزيد من الدعم اليهودي- الأميركي لصربيا خلال مؤتمر الصلح المتوقَّع بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وبالفعل، تمّ ترتيب ذلك بأن يقوم الدبلوماسي الصربي المعروف ميلنكو فسنيتش، وزير الخارجية ورئيس الحكومة لاحقا في يوغسلافيا التي تشكّلت في نهاية 1918، بإرسال رسالة يُعبّر فيها عن تأييد وعد بلفور، وما هو أكثر من ذلك:

"العزيز د. ألبالا،

أرغب في أن تنقل لإخوتك اليهود كلّ عواطف حكومتنا وشعبنا لكلّ ذلك الجهد العادل لإحياء بلدهم المحبوب في فلسطين، الذي سيمكّنهم أن يأخذوا مكانهم في المستقبل بين الأُمم، وذلك بما ينسجم مع إمكانياتهم الكبيرة وحقّهم الذي لا يقبل الشك. ونحن متأكّدون من أنَّ هذا لن يكون في صالحهم فقط، بل في صالح كل الإنسانية... ولا يوجد دولة في العالم تؤيّد هذه الخطّة (وعد بلفور) مثل صربيا.

إنّنا نأسف لأنَّ مواطنينا اليهود سيتركون البلاد (صربيا) لكي يعودوا إلى الأرض الموعودة، ولكن نأمل في أن يبقوا إخوةً لنا وأن يُبقوا لنا مكانا في قلوبهم، وأن يكونوا بذلك أقوى صلة لنا بين إسرائيل الحرّة وصربيا".

ويُلاحَظ هنا في نص الرسالة، التي تحمل تاريخ السابع والعشرين من كانون الأوّل/ ديسمبر 1917، أي بعدَ عدّة أسابيع فقط من نشر وعد بلفور، أنَّ الحكومة الصربية لم تكتف بتأييد الوعد البلفوري بـ "وطن قومي لليهود في فلسطين"، وإنما ذهبت أبعد من ذلك، لتُعبّر عن أملها في أن تقوم العلاقات قريباً بين "إسرائيل الحرّة وصربيا"، أي القفز فوراً إلى "الدولة المستقلّة" التي سمّاها باسمها (إسرائيل). وبهذا تكون صربيا بالفعل أوّلَ دولة في العالم تؤيّد رسمياً وعد بلفور قبل أن يتلاحق التأييد من الدول الأُخرى مثل فرنسا وإيطاليا وهولندا وغيرها.

ولم يتوقّف دور ألبالا هنا، بل إنّ بلغراد قرّرت بعد نهاية الحرب إرساله كممثّل عنها إلى مؤتمر الصلح في باريس، والذي وُضعت فيه الأسس لعصبة الأمم والانتداب، وصولاً إلى سان ريمو في نيسان/ إبريل 1920، حيث تقرّر وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، "مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور".

وبناءً على ذلك بقيت علاقة ألبالا وثيقةً مع المشروع الصهيوني في فلسطين التي زارها لآخر مرّة في 1935 لكي يشارك في تدشين غابة زيتون باسم الملك ألكسندر بالقرب من حيفا!


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون