"مقهى الفستق".. رائحة من الشرق البعيد

"مقهى الفستق".. رائحة من الشرق البعيد

25 ديسمبر 2021
من "مقهى الفستق" (العربي الجديد)
+ الخط -

في عام 1993، نشرتُ في مجلة "اليرموك"، عندما كنت أعمل في قسم التاريخ بجامعة اليرموك، أول دراسة لي بعنوان "بدايات انتشار القهوة والمقاهي في بلاد الشام في القرن السادس"، لأدخل بذلك في مجال واسع تُوّج في 2012 بصدور كتابي "من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي". وفي هذا السياق غرقتُ في مجال أوسع خلال السنوات التالية بتتبُّع الدور الفكري والسياسي والاجتماعي والثقافي للمقاهي بعد انتشارها في أوروبا والعالم الجديد حتى قيام الثورة الأميركية وتأسيس الولايات المتحدة، والتي أصبحت فيها "القهوة الأميركية" و"دنكين دوناتس" و"ستار بوكس" وغيرها من رموز الأمْرَكة في العالم.

كانت الرحلة إلى نيويورك تمرّ عبر "مطار إسطنبول" الجديد، المختلف عن "مطار أتاتورك" القديم الذي ألفناه خلال ثلاثين سنة وأصبحنا نعرف أين نجد "القهوة التركية" فيه؛ فقد كان من السهل في هذا المطار الضخم أن تجد "القهوة الأميركية" في كلّ ركن، ولكن لم يكن من السهل أن تجد فيه "القهوة التركية" التي اعتدنا عليها، والتي اعتمدتها "اليونسكو" قبل عدّة سنوات كإسهام تركي في التراث الإنساني غير المادي.

في رحلة المقاهي من دمشق إلى حلب ومن إسطنبول عبر البلقان إلى أوروبا الغربية وصولاً إلى إنكلترا، التي غصّت بالمقاهي في القرن السابع عشر وكان لها دورها في الحياة الفكرية والسياسية التي أثمرت الليبرالية، كانت فيينا محطّة فارقة في إنتاج نمط مختلف من المقاهي الفخمة التي تُوفّر الراحة للمرتادين بمقاعدها وكراسيها وتصميمها ولوحاتها، وتُقدّم بإلاضافة إلى القهوة بعض الحلويات أيضاً. وقد ترسّخ هذا "النمط الفييني" للمقاهي في أوروبا وحتى في الشرق من سراييفو إلى القدس، حيث افتُتحت مقاه باسم "مقهى فيينا" اجتذبت إليها المثقّفين والفنّانين، وكان لها دورها في تلك المدن والدول التي وُجدت فيها.

يقف التشكيلي السوري محمد الحافظ وراء فكرته وتصميمه

يحمل اسم مدينة نيو هيفن، التي كانت من أوائل المستوطنات التي تأسّست في ثلاثينيات القرن السابع عشر، رمزاً يدلّ على ما كانت تعنيه: الملاذ الجديد للهاربين من الاضطهاد الديني والباحثين عن مستقرّ آمن يعيشون فيه حياتهم بحُرية. ولكن هذه المدينة اشتهرت لاحقاً على مستوى العالم بجامعتها (جامعة ييل) التي تأسّست نواتُها عام 1701، وأصبحت الآن ضمن أفضل عشر جامعات في العالم. وما دامت الموضوع عن القهوة والمقاهي، تجدر الإشارة إلى أنّ مكتبة هذه الجامعة تتميّز بواحدة من أكبر مجموعات المخطوطات الشرقية في الولايات المتّحدة، والتي تحتوي على مخطوطات فريدة في العربية، بما ذلك رسالة عن القهوة تعود إلى القرن السادس عشر أقوم الآن بإعدادها للنشر.

في جوار "جامعة ييل"، لدينا مقاه كثيرة على نمط "ستار بوكس" و"دنكين دوناتي" تقدّم مع القهوة الأميركية بأنواعها قطعة حلو أو شطائر تفي بالحال لتوقُّف سريع أو لاستراحة عابرة. ولكن منذ عام، افتتح في محيط الجامعة مقهى حمل اسماً لافتاً للنظر: "بستاشيو"، وكان وراء فكرته وتصميمه ونجاحه الفنّان التشكيلي السوري محمد الحافظ، الذي يُعرف في ولايات نيو انغلاند من نيويورك إلى بوسطن بأعماله الفنّية في المعارض التي تعبّر عن واقع السوري بعد تشرّده من وطنه وإصراره على الحفاظ على هويته وتسويق نفسه باعتباره يمثّل حضارة إنسانية وليس "ثقافة إرهابية".

الصورة
مقهى الفستق - القسم الثقافي
"بستاشيو" أو "مقهى الفندق" (العربي الجديد)

يلفت نظر المار في الشارع اسم وواجهة هذا المقهى، ممّا يحرّضه على الدخول واكتشاف ما فيه أو ما يميّزه عن غيره. قد تبدو الواجهة الداخلية، التي تحفل بأنواع كثيرة من "الشيس كيك" التي نراها في المقاهي الأميركية الأُخرى، لا تُميّزه عن غيره، ولكن مجرّد الدخول نحو القاعات الداخلية تكشف عن عالم آخر: قاعات صُمّمت بأرائك واسعة ومريحة تغري بالجلوس والحديث مع أصدقاء وليس لمجرّد تناول فنجان قهوة وقطعة كيك. كانت الجلسة مغرية للحديث والاستمرار في الحديث، وهو ما كان ملاحظاً أيضاً في المقاعد المجاورة. كان من الملاحَظ أيضاً، من خلال اللغات التي تصل إلى مسامعنا، وجود أتراك وبشانقة، من الجيلين الأول والثاني، والذين يشدّهم هذا النوع من المقاهي للاجتماع هنا والحديث عن مختلف المواضيع التي تختلط بالحنين إلى الماضي وواقع الحاضر.

مجرّد الدخول نحو القاعات الداخلية يكشف عن عالم آخر

إلّا أن هذه المقهى، بحكم الاسم الذي يحمله، لم يكتف بتوفير جلسات مريحة لروّاده، بل سعى إلى أن تكون له بصمة خاصة تعزّز هوية وثقافة الاسم؛ ففي المقهى لدينا "قهوة سورية" و"قهوة تركية" و"لاتيه مع الفستق" (تتميّز برشة فستق عليها) و"شيس كيك" أميركية مع الفستق تجعل من يتذوّقها يشعر بفرادة المكان الذي تشمل محتوياته بعض التحف الشرقية التي تدلّ على ثقافة المصدر.

ميزة هذا المقهى، الذي أراد صاحبه أن يجمع الشرق والغرب، يُمثّل تجربة جيله الذي أصبح مبدعاً وفاعلاً في المجتمع الأميركي، ولكنّه ينجح أيضاً في تسويق ثقافة المنطقة التي جاء منها. وهكذا نكاد نجد المكان منقسماً إلى فضاءين متميّزين: قسم يضمّ طاولات عادية وحولها كراس عادية تصلح لشخصين أو ثلاثة لجلسة سريعة، وقسم يضم أرائك مريحة تصلح لمجوعة تقصد هذا المكان لذاته حيث تشعر فيه بالراحة وتستغرق في الجلوس والحديث والشجون والاستمتاع بكل ما تراه من حولها.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون