"طيور السنونو" لفرناندو آرامبورو: تاريخُ إسبانيا بوصفه حكايةً شخصية

"طيور السنونو" لفرناندو آرامبورو: تاريخُ إسبانيا بوصفه حكايةً شخصية

16 سبتمبر 2021
فرناندو آرامبورو في باريس، ربيع 2018 (برتران غي، Getty)
+ الخط -

في الخمسين من عمره، وببرودة دم نادرة، يقرّر توني، الخائب أمله في هذا العالم البشع، إنهاء حياته. لقد اختار مدرّس مادة الفلسفة في المدرسة الثانوية، والذي يتأخّر كثيراً في تعريف القارئ على اسمه، بشكلٍ دقيقٍ وهادئ موعد موته، تحديداً في الأول من آب/ أغسطس من عام 2019، أي بعد عامٍ كامل من لحظة الكتابة.

حتى موعد الانتحار، سيكتبُ توني كلّ مساء في شقّته الواقعة في حي من أحياء مدينة مدريد، والتي يتقاسمها مع كلبته بيبا، إضافة إلى مكتبته الشخصيّة التي تحتل قسماً كبيراً منها، لكنّه سيتخلى عنها تدريجياً، نوعاً من تاريخ شخصيٍّ قاسٍ ومُرّ يصعب تصديقه إلى حدٍّ ما، لكنّه لا يخلو من نبرةٍ فكاهية وحنونة. 

هكذا يبدأ توني بشكل دقيق في كتابة خلاصته الحيوية، فيتقاطع في يوميّاته مساران زمنيان: الأوّل، الذي يُخبرنا من خلاله، يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، الأحداث الرئيسة في ماضيه، إضافة إلى العديد من الشؤون اليومية المتعلّقة بإسبانيا التي تهزّها الاضطرابات السياسية، لا سيّما عندما يتناول بانوراما الحرب الأهلية مروراً بنظام فرانكو وانتهاءً بفترة الانفتال الديمقراطية؛ والثاني، مسار العام كاملاً، في انتظار تنفيذ لحظة الانتحار.

ثلاثة أجيال ترسم حاضر إسبانيا بشكله الأكثر تناقضاً

هذه هي قصة توني، بطل "طيور السنونو"، الرواية الجديدة للكاتب الإسباني فرناندو آرامبورو (مواليد سان سيباسيتان، 1959)، والتي صدرت مؤخّراً عن دار نشر Tusquets الإسبانية، تحديداً بعد خمس سنوات على نشر روايته "وطن"، التي تحوّلت إلى "ظاهرة نشر أدبية"، بكلّ معنى الكلمة، لا سيّما بعد ترجمتها إلى 34 لغة وبَيْع ما يقارب المليون نسخة منها فقط في إسبانيا.

يُحاول آرامبورو في روايته الجديدة أن يمزج العام بالخاصّ، تاريخ توني الشخصي مع تاريخ إسبانيا، قصّة حياته مع قصّة حياة الشخصيات التي يعرّف القارئ عليها، لا سيّما عائلته، وشقيقه الذي لا تربطه به علاقة جيدة، وزوجته السابقة آماليا، التي لم يستطع يوماً أن يقطع التواصل معها، حتى لو أراد ذلك، إضافة إلى ابنه الإشكالي نيكيتا وصديقه المخادع باتشويلا، وأخيراً آغيدا الطيبة، الخارجة مؤخراً من قصة حبٍّ مبتور.

كلّ هذه الشخصيات، إضافة إلى غيرها، والتي يشرّحها الراوي بمشرط حاد، تشكّل كوكبة بشرية رائعة تغزل خيوط رواية تتنوع فيها أشكال العنف، والحبّ، والعلاقات الأُسَرية، والمغامرات التي دائماً ما تنتهي عند الشخصية الرئيسة نفسها، توني، الذي يريد، بشكل مشوّش، أن يسرد آخر تفصيل حميمي من حياته، لكنّه يرى نفسه يجمع آخر أنقاضه، فيُعلّمنا بذلك درساً لا يُنسى عن الحياة.

الصورة
طيور السنونو ـ القسم الثقافي.jpg (111.7 KB)

تجري أحداث "طيور السنونو" بين صيف عام 2018 وصيف 2019، وتلخّص بشكل شامل الواقع الاجتماعي والسياسي في إسبانيا، لا سيّما عبر شخصية الوالد، المناضل الشيوعي، وابنه توني الذي يختار مرشّحيه بشكل عشوائي، وابنه اليميني الذي وشم صليباً على جسده. ثلاثة أجيال ترسم قوس التاريخ الإسباني بشكله الأكثر تناقضاً وتضارباً في المواقف، والرؤى، والتعامل مع الأحداث السياسية، وقبل هذا كله، العلاقة في ما بينهم. ضمن هذا السياق، نرى أن الكاتب يقدّم لنا مجموعة من السقالات التي تدعم فكرة انتحار بطله، لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بمعنى هذا العالم. ومن هنا كان عنوان الرواية، الذي يشير إلى طيور السنونو ومواسم الهجرة والتحوّلات الدورية، أي الحياة كرحلة من التعب والفشل.

ولإثبات ذلك يسرد آرامبورو مجموعة من الحجج والبراهين: الزواج، الحب، الكراهية، العنف، التعليم، الوحدة، الصداقة، السياسة، العمل، الإثارة الجنسية، والثقافة؛ كلّها تتداخل في ما بينها لتشكّل لنا صرحاً نفسياً متكاملاً يستطيع توني من خلاله النفاذ إلى أعماق الأشياء ومراقبة تصميماتها الداخلية المعقّدة، فتتكوّن لديه انطباعات وأفكار عن الوجود والعالم المحيط بنا، وليتحوّل في نهاية المطاف إلى شخص كاره للبشر وللوجود، على الرغم من أنه سينكر كرهه للعالم على طول الرواية.

"لا أحبُّ الحياة، هذا الاختراع الشرير، لا أحبّ تصوّرنا لها وعنها، أكره أيضاً ممارستنا لها". بهذه الطريقة سيبرّر توني عزمه على الانتحار. إن إظهار الخلفية المعقّدة لقرارٍ عقلاني، ليس متسرّعاً للوهلة الأولى، وليس مَرضياً كما يبدو، سيدفع بالكاتب الإسباني فرناندو آرامبورو إلى دقّةٍ سردية يكشف من خلالها عن براعة غير مألوفة، يقبض فيها على الزمن، بأمسه وحاضره وغده، في تسلسلٍ رشيق يوجز الحياة ويلخّصها.

دِقّة في السرد تكشف عن براعة نادرة في القبض على الزمن

سيلاحظ القارئ عبر صفحات الرواية الطويلة، والتي يبلغ عدد صفحاتها السبعمائة، تعمُّد المؤلّف تخصيص قسم كبير منها للحديث عن مدينة مدريد، كما لو أنها شخصية رئيسية في العمل. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى الجهد الكبير الذي بذله الكاتب في التوثيق وسرد الأحداث التاريخية التي شهدتها المدينة، لا سيّما الاجتماعية والسياسية منها، والتي بدورها وفّرت له البيئة المناسبة لرسم معالم وتضاريس الشخصيات التي يطمح إليها.

"لقد أمضيت ثلاث سنوات وأنا أكتب هذه الرواية، غير أنني تمكّنت من تكريس وقتي لها بشكل مكثّف، مع تفاقم الأزمة الصحية. كنتُ أستيقظ باكراً وأنكبّ على الكتابة حتى نهاية كل يوم. انقطعت عن السفر وحبست نفسي بين قضبان اللغة في هذه اللعبة الأدبية. في الحقيقة، لقد أعطتني الظروف المحيطة وضعاً مثالياً للكتابة. على الرغم من أنني لا أعيش في مدريد، بل في ألمانيا، حيث أعمل كمدرّس لغةٍ إسبانية، إلّا أنني أردت أن أختبر عوالم جديدة في كتاباتي. فمدريد، بالنسبة إلي، ليست تراكُمَ مبانٍ وخليطاً من البشر والأشياء غير المترابطة، إنما هي، في المقام الأول، مخزنٌ ثريّ من التجارب الشخصية والقصص والحكايات"، يقول فرناندو آرامبورو عن روايته الجديدة، وهو على قناعة كاملة أنَّ النقد ينتظر بفارغ الصبر هذه الرواية، لا سيّما بعد أن ترك سقف اشتغاله الأدبي عالياً مع روايته "وطن".

المساهمون