"طبيب أرياف" لمحمد المنسي قنديل: صحة مصر وأمراضُها

"طبيب أرياف" لمحمد المنسي قنديل: صحة مصر وأمراضُها

13 سبتمبر 2022
محمد المنسي قنديل
+ الخط -

تصوِّر روايات محمد المنسي قنديل غنى التجربة الإنسانيّة بشموليتها، مع خصوصية تنطوي على قراءة زمنٍ ما، يختلف بين نصٍ وآخر. وفي روايته "طبيب أرياف"، الصادرة عن "دار الشروق" عام 2020، يقرأ القاصّ والروائي المصري (1946) السنوات التي سبقت وأعقبت اغتيال السادات. كتابة المنسي قنديل استعراضٌ لصور الحياة المتنوّعة، ولما يحرّك النفس من نوازع ورغبات، وهي كتابة تشريحيّة تضع مصائر شخصياتهِ في صراعٍ دائم بين ما تأتي بهِ الحياة وما يريده الإنسان منها.

بالنسبة إلى روايته الأخيرة، يذكر صاحب "يوم غائم في البرّ الغربي"، في أحد لقاءاته، أنّه كان من المفترض أن تكون روايتَه الأولى. ولكنّ نصيحةً قدّمها نجيب محفوظ (1911 - 2006) لقنديل ورفاقه، جعلته يؤجّل كتابة الرواية التي تتحدّث، كما يقول عنوانها، عن طبيب يخدم في الريف المصري.

وكان محفوظ قد اقترح على الكتّاب الشباب آنذاك الذهاب بالرواية المصرية إلى مساحات جديدة غير الحارة والبيئة. وقد كتب المنسي قنديل رواياته بالفعل بحثاً في بيئات جديدة كما في روايته "قمر على سمرقند" أو "كتيبة سوداء". لكن بموازاة ذلك، ما يميّز كتابته ليست البيئات التي عمل عليها، وإنّما مهارته في خلق دافعٍ إنسانيّ، رومانسي غالباً، لدى شخصياتهِ. فرواياته، على الرغم من واقعيتها، يبقى الدافع لدى شخصياتها قصّة غرام، تُضفي على حكاياته تصوُّراً طفوليّاً ونزيهاً عن العالم الذي نعيش فيه. ذلك لأنّ المجتمع الذي يروي حكاياته هو مجتمع لم يُلوَّث بعد، وهو عالم طفوليّ من غير أن يفقد تعقيداته. ذلك أنّ الحبّ الذي يكتب عنه قنديل حُبّ صعب، دونه عوائق. وكتابة المنسي قنديل تجريب في تفكيك تلك العوائق التي تمنع لقاء الحبيبين. بهذه الصورة، يكتب عن طفولة العالم، عن عالم بريء يوشكُ أن يعي حقيقةَ أنّ الحبّ متعذّر التحقّق، ويبدو هذا التعذّر من طبيعة الحبّ نفسه.

عالم بريء يوشك أن يعي حقيقة أنّ الحبّ متعذّر التحقّق

الحبّ دافع دائم في كتابة المنسي قنديل. وبذلك فهو وسيلة يعرض من خلالها سلوك البشر. على ضوء هذا، يجدُ القارئ إلى جانب الحبّ، روحَ مغامرةٍ متوثّبة حاضرة في أعماله. وقلّما تخلو رواية من رواياته من مغامرةٍ تحدث في الطبيعة، أو في وجه الطبيعة، أثناء ارتحال النّاس بين مكانين. كالكتيبة التي مات بعض جندها في عرض البحر في روايته "كتيبة سوداء"، ومجموعة الشبّان الذين ماتوا في الصحراء في "طبيب أرياف". المغامرة في رواياته هي خروج الشخصيات بشكل تلقائي أو مرغمين، عن الأنماط الآمنة، للبحث عن أملٍ جديد أو عن خلاصٍ وحلّ لما أغلقه الواقع. باختصار، محمد المنسي قنديل روائي عاشق ومغامر. كما يذكر في إحدى لقاءاته أنّ الهزيمة التي أحاقت بالعرب عام 1967 قد تركت لديه سؤالاً كبيرة وهو: لماذا نحن أُمّة مهزومة؟

وروايته الأخيرة إجابة مستفيضة لسؤال جيله، عبر حكاية الطبيب الذي يمثّل ما يمثّله الطب ضمن عالم المنسي قنديل غير الملوّث، من قيم النزاهة والانضباط والانتصار للعلم. ويرمي قنديل شخصيته التي ترجو تحقيق مثاليّة العالم إلى قرية في الصعيد المصري، إبّان اغتيال أنور السادات (1981).

يؤكّد راوي الحكاية، وهو الطبيب، بصورة متكرّرة على مقولةٍ مفادها أنّ جذور المرض مقيمة في مصر بينما الصحّة عرض زائل. كما يؤكّد مقولته عبر تمثيلات روائية تصوّر المغامرات التي تحدث مع الطبيب وسط الجهل والمرض والفساد الذي يطاول كلّ تفصيل من تفاصيل القرية المصرية. بدءاً بالوحدة الصحّية التي بُنيت لأجل أحد الموظّفين بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر. وكان هذا الموظّف قد رافق عبد الناصر في معارك فلسطين.

الصورة
طبيب أرياف - القسم الثقافي

يعيد المنسي قنديل قارئه إلى تلك الآونة كي يشير إلى فشل التخطيط في المعارك بأنواعها كافّة، لا معارك الصحّة فقط، فالموظّف نفسه يستخدم أدوية مكافحة البلهارسيا لاصطياد الأسماك، والطبيب الشاب الذي يُعاقَب بسبب انتمائه السياسي بالنفي إلى الريف يخوض صعاباً عديدة مثل نقص الأدوية والتوجّس من المصير الذي لحق بالطبيب الذي سبقه، وهو الجنون، إلى جانب شعوره العميق بالوحدة.

من بين القصص الكثيرة التي تحدث مع الطبيب، يمكن لحكايتين - الأولى سياسيّة والثانية شخصيّة - أن تمثّلا إجابة لسؤال المنسي قنديل عن الهزيمة؛ سياسيّاً يشارك الطبيب في عملية تزوير الأصوات في الانتخابات الرئاسية، ويترك عدّة أصوات رافضة، انتصاراً لقناعاته. ثمّ عندما يُكتَشَف أمره، يدافع عن ترك أصواتٍ لا توافق على انتخاب الرئيس الجديد، دفاعاً عن المنطق الذي يقول بوجود معارضين لأيّ عملية. غير أنّ المأمور لا يقبل بنسبة تقل عن المئة بالمئة. هذه إحدى جذور المرض التي لا يُصرّح بها الراوي، ولكنها أكثر وضوحاً من الحاجة إلى التصريح. كذلك تبقى صور الرئيس التي تقاوم العاصفة المطرية كي يهزأ بالطبيب الشاب.

جذور المرض مقيمة في مصر بينما الصحّة عرض زائل

وعلى المستوى الشخصيّ، فالحبّ هو ما يقلق الطبيب، بدءاً من ترك حبيبته له بعد سجنه، كي تأمن جانب الشرطة والملاحقات، إلى اكتشافه حبّه للممرضة في القرية، التي سيعرف أنّها متزوجة. لكنّ الرغبة أقوى الإشارات التي يتبعها الروائي المصري، لذلك فإنّ الرغبة هي التي تنذر الطبيب بانهيار عالمه في القرية، ومن ثمّ مغادرتها، إذ تصمّم الممرّضة على أن تحمل من الطبيب في فندق بالمدينة، وفي الوقت نفسه تتمسّك بالزواج من ابن عمّها الذي يموت في الصحراء، بعد أن ساعده الطبيب على السفر. ويظهر العاشق بصورة القاتل المتآمر على الزوج.

في الواقع المريض الذي ينقله محمد المنسي قنديل، نشهد تحوّل الطبيب العاشق إلى قاتل، والطبيب الثوري إلى شريك في التزوير، بالمساعدة التي قدّمها - بصفتهِ طبيباً - في إبعاد شبهة التزوير عن وزارة الداخليّة. على هذا النحو، يبدو كلّ ما هو خاضع للقانون، معرّضاً لأن يكون فاسداً، ومعرّضاً لتدخّل آلة السلطة في تخريبهِ. تمنحُ هذه المقاربة الغجرَ الذين يطوفون على امتداد السرد بريقاً خاصّاً، ولا سيّما ملكتهم الجازية، لأنّها بخروجها عن القانون، تمثّلُ النجاة من المرض/ الفساد. فالعطب في الحياة المصريّة عطب سياسيّ يأتي من السلطة التي تمثّل الداءَ والدواء معاً.


* روائي من سورية

المساهمون