"صُور" عبّاس بيضون: خمسة عقود وشاعر ومدينة وبحر

"صُور" عبّاس بيضون: خمسة عقود وشاعر ومدينة وبحر

21 يونيو 2022
عبّاس بيضون: منعطَفٌ في قصيدة النثر العربية
+ الخط -

نشيدٌ عن البحر أم المدينة، هذا هو السؤال الذي ينتابُ قارئ قصيدة "صُور" للشاعر اللبناني عبّاس بيضون، التي كتبها في مطالع السبعينيات قبيل اندلاع الحرب الأهلية (1975). ورغمَ أنّ بيضون لم يولد في هذه المدينة ولكنّه عاش فيها شطراً من طفولته وصباه وانتمى إليها، لا الانتماء الذي يتحدّث عنه شعراء "الوطنية المقدّسة" بطبعتها الغارقة في التعصّب، بل ذلك الانتماء الواقعي المنفتح حيثُ تشربُ عينا الشاعر أزقّةَ المدينة وجدرانها المتداعية لتبني ملحمة شعرية بالنّاس العاديين وحيواتهم المبذولة. 

بعد قرابة خمسين عاماً على ذلك النشيد ها هو يَصدر في طبعة ثانية، وها هو عباس بيضون يُطلّ على الرؤيا الشعرية التي كتبها قبل نصف قرن، إذ يحضر في "فضاء برزخ" البيروتي عند السابعة من مساء اليوم الثلاثاء، ليقرأ من "صور" وليوقع الطبعة الجديدة من القصيدة/الديوان الصادر عن دار "النهضة العربية".

القصيدة التي تتكوّن من ثلاث مشاهد (البحر، وصور، والخروج) أسّسَت منذ مطلعها اللافت إلى مشهديّة جديدة، ترتكز على ذلك التساؤل الموجّه إلى الذات، يقول بيضون: "مَن أنا حتّى أقفَ بينَ المُنشِدينَ، صانعي النّعال الذين جاؤوا على خيولٍ هزيلةٍ من الوعر، الحطّابين الذينَ خنقوا بالكِلسِ النيرانَ الصغيرة، صبيان الفرّانين الذينَ أشعلوا في الأحياء المستديرة أكياس القش والخَيش" يحتملُ هذا المطلع إحالات عدّة؛ فمن جهة تبرزُ الأنا التي تتحدّث عن الجموع لتصفهم وتنتمي إليهم، ومن جهة ثانية يُوغلُ في تفصيل حالِهم البطولية: حطابين، وفرّانين، و"فلاحين حملوا نساءَهم وأطفالهم على أكتاف الحمير المُسنّة وعبروا بها تحتَ بدر الحقول وِدياناً كالخُدوشِ الجافّة".

وبقدر ما تزعجُ هذه الفاتحات من يحتكرون تصوّرات القداسة عن الشعر والتاريخ الأمثولة والمُدن الفينيقيّة السرمدية، على الجهة المقابلة يُمكنُ أن نقول أيضاً، إنّها مطالعُ مُلهِمة نجد صداها في تجارب عربية مختلفة، من بينها "لاعب النرد" لمحمود درويش التي هي من أواخر قصائده، وكان مطلعها: "مَنْ أَنا لأقول لكمْ ما أَقولُ لكمْ؟".

أسّسَت القصيدة إلى مشهديّة جديدة، ترتكز على التساؤل الموجّه إلى الذات

لم يقف صاحب "صور" في مطلعه وهو ابن ثمانية وعشرين عاماً، وقوف الناظر إلى الماضي: "مَن أنا حتّى أتقدّمَ هؤلاء تحت القناطر التي تحني المنازلَ من خواصرها المعقودة بحبال الغسيل" يتابع بيضون مشهديته المفتوحة على المكان المجلوِّ بالهامشية وعدم الاكتراث.

هذا يُرجعُنا إلى تلك الأنا وموقعها بين الجموع، فكما أنّها نزعت قناع البطولة عن التاريخ واللغة صنعت لذاتها موقفاً مُحايثاً تذوب فيه النبوءة والاستشراف ويستحيلان إلى كلمات تُنطَق الآن وهنا دون أن تتلاشى إنّها كلمات فولاذية بيد أنّها شديدة العذوبة: "بين الحَجَرِ والماء ترقرقنا كفولاذٍ مُتبلوِرٍ... وكُنّا نرى دائماً أحلامنا التي لا نُنكرُها تُقتَل. ونبكي على الضفاف بقلبِ حجرٍ حقيقي".

مع المقطع الثاني تتبدّى التكوينات الثنائية بين المدينة وما حولها من أطراف، هذا يشفّ عن سؤال المركزية والوطن، وأيّ المدن تأخذُ من البحر تشكيله السحري لتُغرِق من يأتي إليها بسحرها، فإذا بالسحر يصيرُ جميلاً يُعجِز الألسن: "يا صور... حينَ نزلنا إليكِ انتزعتِ من حناجِرنا الوترَ الفلاحيّ، وها نحنُ بالكلمات التي تعلّمنَاها منكِ لا نستطيعُ أن نصفَكِ". 

إنّها المدينة الصلبة التي تُتيه وتقطّع الأوتار وتُلقي بلا تحيّة يَدها على شمال البحر. إنّها "الجثّة الحجرية" و"الأوتادُ الساقطة" "والأرض التي تغلي بالفئران" و"الجبين المنتن من رائحة الصّيد" ولا داعي بعد كلّ هذا أن يستشيط شعراء المثال والخيال الأجوف من سماع هذه الكلمات، إن لم يتعدّ الأمر مَن هُم وراء أولئك الشعراء من أصحاب الخطابة والسَّاسة.

في المقطع الأخير المعنون بـ"الخروج" تستريحُ المجموعة التي حملها الشقاء والعناء إلى حُلمٍ لا يرتفعُ إلى حافة السرير، مع ذلك فهو مُستنكَرٌ ومقموع، السماء تنطوي كمنديل ورقي تتهاوى من عليائها وتقعي أمام الناس، أمّا البحر فمسلوبٌ من الأعين، ليس بحر فينيقيا هذا ولا يعبأ بأسماء الآلهة والمَلكَات الطريّات بل هو "مُرقّطٌ تحتَ بُقعِ الزيت والعُلبِ والنفايات المُلوّنة، ثمّ يفورُ الميناءُ كلّه بزفرِ البحر".

ها هي "صُور" إذن البحرُ المدينة الخروج، نشيدٌ متجدّد التكوين، وهي إذ لم تصدر في كتاب إلا بعد عشر سنوات على كتابتها أي عام 1984، تعود اليوم بهذه الطبعة الثانية لتحدِّقَ في ذاتها وفينا أيضاً ولسان حالها: "كانَ البحر، كان الرّجال، كان الكلام". 

موقف
التحديثات الحية

المساهمون