"صنع معاداة السامية": من رعاية الصهيونية إلى تغطية جرائمها

"صنع معاداة السامية": من رعاية الصهيونية إلى تغطية جرائمها

19 يوليو 2022
خلال مظاهرة ضد العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في المسجد الأقصى، نيسان الماضي (Getty)
+ الخط -

يناقش الكاتب أبراهام ملتسر في كتابه "صنع معاداة الساميّة... أو تحريم نقد إسرائيل"، الصادر حديثًا للمترجمة سميّة خضر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، مصطلح "معاداة الساميّة" بوصفه "عنصرية خالصة"، ويضيف إلى هذا الوصف في منتصف الكتاب أن المصطلح "أيديولوجيا يمينية وإمبريالية"، عاد إلى الظهور للرأي العام بشكلٍ متكرّر مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد إعادة صياغة تعريف "معاداة الساميّة" في الدوائر الغربية والأوروبية.

قبل المضي قدمًا بتقديم عرض موجز لهذا الكتاب، علينا الإشارة إلى أنه يمكن للقرّاء تقسيم "صنع معاداة الساميّة" المؤلّف من تسعة عشر فصلًا إلى ثلاثة أقسام، إذ إن ملتسر يُفرد في الفصول الأولى من الكتاب جزءًا لسرد سيرته الذاتية منذ وصوله إلى "إسرائيل" في عام 1948، وكيف تكوّنت رؤيته لمعاداة الصهيونية التي يفصلها عن "معاداة الساميّة". بينما يخصّص القسم الثاني من الكتاب للحديث عن مصطلح "معاداة الساميّة" من دون أن يغفل عن مزجها بالسيرة الذاتية، أما القسم الثالث فإنه يستعرض ناقدًا مجموعة من الأبحاث والمقالات لشخصيات يمينية منظّرة لـ"معاداة الساميّة"، فضلًا عن مناقشة ونقد المنظّمات والحركات السياسية الداعمة للسياسات الإسرائيلية. 


تاريخ نشوء مصطلح "معاداة الساميّة"
يرجع ملتسر معرفته بمصطلح "معاداة الساميّة" إلى فترة دراسة الثانوية في ألمانيا في عام 1958، عندما نعته أحد الطلاب بـ"اليهودي القذر"، لأنه كما يقول: "تعلمّنا في المدرسة (في إسرائيل) أن كل شعوب الأرض كارهون دائمًا لليهود"، وهو ما يدفعه للاندهاش من "تجاهل غسيل الأدمغة الذي قامت به المسيحية على مدى آلاف السنين" هذا من جانب، أما من الجانب الآخر، فإنه يشير إلى أن "الأحكام المسبقة والشكل الذي عاشت به معاداة اليهودية في الثقافة الغربية على مدى آلاف السنين قد تركت آثارها العميقة فيها".

يرفض ملتسر اعتبار مصطلح أو/و فكرة "معاداة الساميّة" فضاءً ثابتًا غير متغيّر، بل يرى أنها "تبدّلت كثيرًا مع مرور الوقت، ولاءمت نفسها كثيرًا مع الاتجاهات السائدة وروح العصر والقوى السياسية الحاكمة"، فهو في هذا السياق يُرجع تاريخ نشوء المصطلح في الواقع إلى كتاب "معجم الدولة روتيك فلكيشن" الذي أورده لأوّل مرّة في عام 1865، ثم عاد لاحقًا الصحافي الألماني فليهلم مار ليقدّم تعريفًا لليهود في كتابه الشعبوي "انتصار اليهود على الألمانية" بأنهم "غرباء شرقيون" ينتسبون إلى "عرق سامي"، وقارنهم بـ"الطفيليات".

تبدّل المصطلح ولاءم نفسه مع القوى السياسية الحاكمة

ومع ذلك، لم يكن هذا المصطلح قد اكتسب شعبية كبيرة إلا خلال فترة الحرب العالمية الأولى، عندما اتُّهم اليهود بخيانة ألمانيا، وظهر حينها مصطلح "الطعن في الظهر" محمّلاً إياهم مسؤولية الهزيمة، قبل أن يصل المصطلح إلى "ذروة الأدب المعادي للسامية" في كتاب الزعيم النازي أدولف هتلر (1889 – 1945) في كتابه "كفاحي"، ويشير هنا ملتسر إلى أن فترة ما بين الحرب العالمتين قد تميّزت بـ"معاداة الساميّة، التي أدت في نهاية المطاف إلى الهولوكوست وإبادة اليهودية في أوروبا"، ويضيف على ذلك موضحًا أن: "معاداة اليهودية هي جزء لا يتجزأ من الثقافة الغربية، وتعود إلى قرون عدة"، ويتبعها مستدركًا بقوله إن: "هذه الكراهية والازدراء المتزايدين" تحوّلا "مؤخرًا ضد المسلمين".

هنا علينا التوقف قليلًا للإشارة إلى مصطلح "الفيلوسامية" الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، صحيح أن المصطلح كان قد وجد لأول مرة في القرن الـتاسع عشر بالتوازي مع ظهور مصطلح "معاداة الساميّة"، ومن بين ما يعنيه المصطلح – كما تذكر المترجمة في تعليقها – هو "الحب أو التعاطف أو إظهار المودّة للسامية"، لكن ملتسر يقول إن الكثير من اليهود "يحتقرون بشدة هذه النزعة المفرطة من الفيلوسامية"، ويضيف معلّقًا في هذا الخصوص أن ما نشهده اليوم في "نزعة الفيلوسامية هو باهت أو ساذج ثقافيًا: إنها تقتات على مشاعر الذنب والتكفير [الألمانية]، لهذا ليس من الغريب أن يقابل المرء كثيرًا من المسيحيين في الدوائر الموالية لإسرائيل وفي تظاهراتها".


الحياة السياسية الألمانية أنموذجاً لـ"معاداة الساميّة"
في قراءته لتعاطي الأحزاب السياسية الألمانية مع "معاداة الساميّة"، والحديث هنا يشمل "حزب الخُضر" أيضًا، يرى ملتسر أن جميع هذه الأحزاب تقف موقفًا لا مباليًا أمام ما تفعله "إسرائيل"، بغض النظر عن انتهاكات القانون الدولي المرتكبة ضد الفلسطينيين، "ذلك أنهم يؤمنون، أو ربما يأملون، أنهم يقفون إلى الجانب الصحيح من التاريخ"، وعلى الطرف المقابل، يؤكّد حاجة الصهيونية لـ"معاداة الساميّة"، لكنه يشير كذلك إلى أنه "من السخف تصوير الصهيونية ومعاداة الساميّة على أنهما تشكّلان أيديولوجيتين متعارضتين مع بعضهما أو متنازعتين".
 
يحيلنا هذا الحديث – وفقًا لملتسر بالتأكيد – إلى الجدالات المتعلّقة بـ"معاداة الساميّة" التي ازدهرت في ألمانيا أكثر من أي وقت مضى، والتي يوصّفها بأنها "جدالات ترتبط عمومًا بالطابع المزعوم لمعاداة الساميّة في مسائل معاداة الصهيونية أو أشكال نقد محدّدة لسياسة دولة إسرائيل"، وهو يضيف في هذا السياق موضّحًا أن "ما تعنيه مناهضة الصهيونية هو بالضبط رفض القومية اليهودية الإسرائيلية الحالية"، وبالتأكيد – مرّة أُخرى الحديث لملتسر – فإنه بناء على وجهات النظر السابقة "لا مكان لوجهة النظر الفلسطينية في ألمانيا"، حيثُ يقف الجميع، بما فيهم رجالات السياسة والإعلام والمجتمع، "بإخلاص شديد أو حتى أعمى إلى جانب إسرائيل، ويمنعون أي نقد ضدّها". يقودنا هذا الحديث إلى واحد من الاستنتاجات، حيث يقول الكاتب إن "أساس الأيديولوجيا الصهيونية هو الشوفينية والعنصرية والكولونيالية التوسعية".

الصورة
غلاف

في مطرح آخر من الكتاب، لا ينفي ملتسر الاعتراف بـ"حقيقة أن الاحتلال (الإسرائيلي) أثبت أنه وضع دائم"، وكيف أنه بعد مرور نصف قرن على  حرب حزيران/ يونيو 1967 "تحوّلت إسرائيل إلى دولة شبيهة بدولة الفصل العنصري، الأبارتهايد"، ويستشهد هنا بحديث "الرئيس الإسرائيلي" رؤوبين ريفلين، الذي وصف مسألة السيطرة على الضفة الغربية بأنها "حقيقة أساسية للصهيونية الحديثة"، لكن ملتسر لا يعتبر في مقابل ذلك أن "إسرائيل الدولة الأسوأ في انتهاكها لحقوق الإنسان في العالم"، إلا أنها بخلاف دول أُخرى، مثل كوريا الشمالية على سبيل المثال لا الحصر، لن تستطيع من دون الحماية التي توفرها لها الولايات المتحدة الاستمرار في نهجها الاستيطاني، ومشدّدًا على أن الصهيونية منذ نشأتها "تحمل طبائع كولونيالية تهدف إلى سرقة أراضي الفلسطينيين وطردهم منها".

يخصص ملتسر حيزًا من هذا الكتاب لتناول قضية اللاجئين التي برزت أزمتها في عام 2015، ويتطرق هنا إلى موقف رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا، جوزيف شوستر، الذي صرّح خلال الفترة التي شهدت توافد اللاجئين من الشرق الأوسط إلى ألمانيا قائلًا: "إننا نستورد مع اللاجئين معاداة الساميّة أيضًا"، لكن ملتسر يرى على عكس شوستر أنه: "في الحقيقة لا تحتاج ألمانيا ولا أوروبا إلى استيراد معاداة الساميّة، فهما قامتا، وعلى مدى طويل، بتصديرها"، ويعيد في هذا السياق التذكير بأن "معاداة الساميّة في الحقيقة منتج أوروبي مسيحي ظهر في أوروبا، وشُحذ وجرت تنميته وتغذيته هناك لقرون طويلة"، ويؤكد في مطرح آخر على هذه الفكرة بقوله: "إن معاداة الساميّة لم تظهر في فضاء عربي، وإنما صنعت في فضاء مسيحي أوروبي في كنف الكنيسة الكاثوليكية ورعايتها".


"معاداة الساميّة".. ما بين حركتين سياسيتين
ينظر ملتسر إلى الصهيونية على أنه لديها ارتباط وثيق بـ"التوسع الإمبريالي"، وذلك بالاستناد إلى ممارساتها الاستيطانية ممثلة بـ"طرد السكان الأصليين بقصد إسكان اليهود على الأرض المنهوبة"، وهو في هذا الجانب يعتبر أن "محاولة وضع معاداة الصهيونية مع معاداة الساميّة على قدم المساواة تمثل خزيًا وابتذالًا"، وفي مطرح آخر، يضيف أنها "تدوس على حرية التعبير التي يقدّرها ويثمّنها العالم الغربي كثيرًا في كل مكان"، لذلك يشير إلى أنه "يمكن أن يكون الشخص اليهودي صهيونيًا، لكن يمكنه أيضًا أن يكون معاديًا للصهيونية"، وفي كلا الحالتين كما يرى ملتسر "نعلم أن رفض أي إيديولوجيا هو أمر طبيعي في السياسة".

كما أشرنا سابقًا، يخصّص ملتسر جزءًا من هذا الكتاب لنقاش ودحض أفكار المنظّرين والمنظّمات والحركات السياسية التي تربط ربطًا وثيقًا بين "معاداة الساميّة" والصهيونية في الأدبيات التي تنشرها للجمهور، ومن بين هذه الحركات يمكننا الإشارة، على سبيل المثال لا الحصر، إلى حركة "معادي الألمان"، والمعروف عنها تضامنها غير المشروط مع "إسرائيل"، ومعارضة من يعارض الصهيونية، والتي تصل في أدبياتها "إلى درجة تمجيدهم إسرائيل والولايات المتحدة كحاملتين للحضارة الغربية"، لكن هذه الحركة تكشف في الحقيقة "نقاط التقاء مع مجموعات اليمينيين الجدد، خاصة الذين يقفون على ضفّة رهاب الإسلام". 

ووفقًا لقراءة ملتسر لمسار هذه الحركة، فإن مؤلفيها يحرصون على التقرّب من ناشري المواقع الإلكترونية الشعبوية اليمينية لنشر الأيديولوجيات العنصرية والقومية، لكن على الطرف الآخر، يرى بعض النقاد اليساريين أن هذه الحركة ما هي إلا "جماعة تتسم بالحمق الشاذ وتحمل عقدة الذنب الألمانية"، كما يتهم النقاد اليساريين الحركة بأنها تمارس بروباغندا، وتحتفي بـ"شكل من أشكال الحماسة الإسرائيلية يتطابق مع المواقف المتطرّفة لليمين الإسرائيلي"، ويضيف ملتسر في تعليقه على هذا الانحياز إلى "إسرائيل" أن "الفهم الذاتي للأيديولوجيا المعادية للألمانية ما هو إلّا نتيجة إجبارية لرفضها الصارم لمعاداة الساميّة، طبعًا باعتبار هذه الأخيرة تجسّد أعظم شرور العالم".

تقتات "الفيلوسامية" على مشاعر الذنب والتكفير "الألمانية"

على الطرف المقابل، يعطي ملتسر مساحة لمناقشة حملة مقاطعة إسرائيل (BDS) التي أسّستها مجموعة من المنظمات المدنية الفلسطينية في عام 2005، للمطالبة بـ"مقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات"، قبل أن تتحوّل إلى حركة عالمية سلمية تضغط على إسرائيل "للامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان"، لكن التعاطي الغربي مع هذه الحملة كان على عكس تعاطيهم مع الحملات التي قامت ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أو حتى حركة الحقوق المدنية التي شهدتها الولايات المتحدة أيضًا، حيثُ وصل الأمر في بعض الدول إلى سن قوانين واتخاذ تدابير تنفيذية لقمع حركة المقاطعة أو تجريمها أو حتى حظرها، بينما رأت دول أُخرى في الحركة أنها تندرج في إطار حرية التعبير. 

لكن عند النظر إلى موقف الأحزاب الألمانية من حركة المقاطعة، نجد أن الأمر وصل إلى تشبيهها بأنها امتداد للحقبة النازية التي طالبت بعدم الشراء من اليهود، وما علينا هنا سوى الاقتباس من ملتسر الذي يرى أن "مقارنة حملة المقاطعة هذه (BDS) بحملة المقاطعة التي قامت بها النازية ضد اليهود والشركات اليهودية لهي مقارنة سخيفة وخادعة وغير تاريخية"، نظرًا لأن "النازية قاطعت بشرًا فحسب لأنهم يهود"، وهو ما يقودنا، في نهاية هذا العرض لكتاب "صنع معاداة الساميّة.. أو تحريم نقد إسرائيل"، إلى حقيقة انسياق مؤيدي السياسات الإسرائيلية "على نحو متزايد صوب اليمين"، والتي يستخدمون فيها "المقارنات بالنازية والانغماس في التخيّلات التهويمية الممتلئة بالعنف". 


* كاتب من سوريّة

المساهمون