"سيّدة الفندق" ليوسف آتيلغان: اسمٌ تركي لتُحفة أدبية

"سيّدة الفندق" ليوسف آتيلغان: اسمٌ تركي لتُحفة أدبية

03 أكتوبر 2021
في حي طارلاباشي بإسطنبول (Getty)
+ الخط -

"سيّدة الفندق" روايةٌ للتركي يوسف آتيلغان (1821 ـ 1989) الذي يوصَف في تواريخ الأدب التركي الحديث بأنه يعتمد على التحليل النفسي. قد يكون ذلك مدخلاً إلى قراءة الرواية الصادرة حديثاً عن "دار الساقي" بترجمة بكر صدقي، لكنّه مع ذلك ليس كافياً، فالروائي الذي وصف ألبرتو مانغويل، القارئُ الأكبر، روايتَه هذه بأنها تحفة مذهلة، على ما حمله غلافها، لا يكفيه هذا التقديم. التحليل النفسي حاضرٌ بالتأكيد في روايته، لكنّ في الرواية - على مستوى بنائها وأسلوبها وصلتها باللغة وبالواقع - كلّ ما يمتّ إلى الرواية الحديثة كما رأيناها في إنكلترا وأميركا وفرنسا. إننا بالفعل أمام أدب جديد، يختلط فيه تيّار الوعي باللعب بالزمن والتداعي الشعري والتمازج بين الخيال والواقع، أي أننا نقرأ بحق "تحفة أدبية".

لعلّنا في البدء نحتار أمام العنوان: "سيّدة الفندق"؛ إذ إننا بالفعل عند فندق، لكنّنا، عدا لمحة تضلّ تتردّد في الرواية عن سيّدة غادرت الفندق حين بلغها موت خالها، واعدةً بالرجوع إليه، لا نعرف غيرها سيّدةً للفندق، وما نعرفه وما تقوم الرواية به وعليه هو "سيّد الفندق"، زبرجد، ذو الاسم الطريف، الذي ورث الفندق عن أجداده وآبائه الذين تحضر سيرهم وأسماؤهم طوال الرواية.

نحن هنا أمام سيّد، لا سيّدة. واذا كانت المرأة التي بقيت ذكراها تلحّ على صاحب الفندق الذي لا يزال ينتظرها ويتوجّس بها وتعود هذه إليه امرأةً وهيئةً قبل كلّ شيء، في بادرة حبّ واشتهاء؛ إذا حملت الرواية في عنوانها إشارة إلى هذه المرأة التي لا نصادفها إلّا كذكرى في بال صاحب الفندق، فإن هذا قد يكون، بحدّ ذاته، مفتاحاً من مفاتيح الرواية التي لا نزال نتساءل أثناء قراءتها، إذا كان الواقع الذي تتناوله ليس بتفاصيله وحوادثه، بقدر ما هو بما يختزنه وتختزنه تفاصيله من دواخل مسترسلة في الزمن والصور والخيال، بحيث يمكن أن يكون موضوعها وعمودها الفقري على درجة من الخفاء والإضمار، تتحوّل الرواية معها، بدون أن تصرّح بذلك، إلى درجة من الإيماء والإلماح، يقاربان أن يكونا ألغازاً.

سرد واقعي لكنه يدفع بالتفاصيل الصغيرة إلى حدود الشعر

الفندق الذي هو عنوان الرواية، هو بالفعل مسرح الرواية، بل هو، بعبارة أخرى، موضوع الرواية وبطلُها. نحن منذ البداية فيه، معه ومع مديره وصاحبه زبرجد. زبرجد هو هنا مدير الفندق، والفندق بزبائنه وغرفه وتفاصيله هو كلّ ما يصلنا عن زبرجد، وهو كلّ ما يظهر لنا منه، وكلّ ما يمكن اعتباره حياته وشخصيته. بادئ بدءٍ نبقى مع زبرجد في الفندق ويومياته فيه. هذه اليوميات دقيقة وجزيئية إلى حدّ بعيد. إنها تفاصيل ضئيلة مرويّة بأكثر ما يكون من المادّية والواقعية. بل نحن نشعر أن المبالغة في ذلك والرصد الدقيق له هما ما يمكن اعتباره، بحقّ، أسلوب الكاتب وانشغاله. يستطيع آتيلغان وهو يرصد الواقع ويبالغ في واقعيته، أن يكون مع ذلك على حدود الشعر. ما يرويه من الجزئيات مختارٌ بعناية، مرويّ بإلماح، بل إن الوقائع الصغيرة، في اختيارها، تكاد تكون صوراً، بل هي الواقع وقد أنتج، في فرط واقعيته وحِدَّتها، صوراً. نحن هكذا أمام شعرية خاصّة للواقع، بل الواقع بوصفه مصدراً ومعيناً للصور اللمّاحة.

الصورة
سيّدة الفندق - القسم الثقافي

نحن في الفندق مع زبرجد، صاحبه ومديره. مع زبرجد لن نغادر الفندق إلّا إلى السوق، حيث نتأمّل صراع الديكة، أو إلى المطعم والسينما. في ذلك كله لا نزال نشعر أنها رواية الفندق والمطعم والسينما. نحن هكذا أمام واقع دائم،  لكن الرواية لا تزيد عن ذلك. زبرجد ينتقل بين فندقه الذي لا يلبث أن يغلقه بدون سبب واضح لذلك، وبين خارجه. أثناء ذلك هناك باستمرار أحداث صغيرة تتوالى، إلى جانب التنقّل بين الأمكنة. تنقّل وما يصادفه، هذه هي الرواية التي تكاد تكون، هكذا، بلا أحداث، أو هي بأحداث غير مبرّرة، لا نعرف كيف تزدحم، وكيف نرجع بالزمن إلى ماضي زبرجد وأسرته الذي ينهمر عليه في آخر الرواية.

مع ذلك يبقى يراودنا إحساس بأن الرواية الحقيقية تقع خارج نصها. إنها موجودة في هذا الماضي المنهمر، في خبايا الفندق ومن بينها، بدرجة أولى، قصّة السيّدة التي لن تعود. أي أننا نرى زبرجد يغلق الفندق بدون تفسير، نراه يكاد يرتكب، في الفندق الخالي، جريمةً هي، في الغالب، خيالٌ بحت. ثم من ماضي زبرجد المنهمِر، وتحت سيله وسيل صوره وخواطره، نرى زبرجد ينتحر، وأيضاً بدون مقدّمات. حياته تلك التي تحمل قصّتها في داخلها، تحملها كأسرار وبواعث ليس لها ما يبرّرها، لتنتهي تلك الحياة كما بدأت، حاملةً معها مرّة أخرى بواعث لا نفهمها. يمكننا أن نفكّر عندئذ بعنوان آخر هو رواية كونديرا: الحياة في مكان آخر.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون