"سورية في القلب": تفكيرٌ بالعدالة لبلدٍ يفتقدها

"سورية في القلب": تفكيرٌ بالعدالة لبلدٍ يفتقدها

30 أكتوبر 2021
أعلام الثورة السورية خلال وقفة احتجاجية بساحة الجمهورية وسط باريس، تموز/يوليو 2019 (Getty)
+ الخط -

يشبه حضور سورية في الفضاء الفرنسي، هذه الأيام، حضور شهابٍ: يلمع لحظاتٍ ثم ينطفئ في الظلمة الشاسعة. البلد الذي لم يغب طيلة سنوات، باتت ماضية، عن صفحات الإعلام وشاشاته، بل حتّى عن النقاشات بين عامّة الناس، يبدو اليوم وكأنّه "وقع في المنسيّات"، كما يقول الفرنسيّون.

نسيانٌ لا يني يعمل على تداركه العديدُ من السوريين المقيمين في البلد، ومعهم فرنسيات وفرنسيون يعنيهم مصير سورية ومصير أهلها. من هذه المساعي برنامجُ "سورية في القلب"، الذي تنظّمه جمعية "فرنسا، سورية، تعاضُد" في مدينة نانسي (شرق)، والذي عاد أخيراً بنسخته الثالثة، التي انطلقت فعاليّاتها في الثاني عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وتستمرّ حتى السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.

اختار القائمون على الجمعية، هذا العام، مسألة العدالة محوراً لبرنامجهم، الذي افتُتح بمعرضٍ للتشكيليّ السوري نجاح البقاعي، يستمرّ في استقبال زوّاره في "بيت الشباب والثقافة ـ ليلبونّ" في نانسي حتى انتهاء البرنامج. إلى جانب رسومات البقاعي ــ الذي يصوّر، وهو السجين السابق في معتقلات الأسد، جحيم تلك السجون وعذابات المعتقلين ــ شهد الافتتاح مداخلةً أدلى خلالها الناشط والمعتقل السابق مهران عيون بشهادته، في حين اختُتمت نشاطات ذلك اليوم الافتتاحي بطاولةٍ مستديرة حول السيستام السجنيّ لدى نظام الأسد، وقد جمعت كلّاً من الكاتب مصطفى خليفة، صاحب رواية "القوقعة" المعروفة بسردها هي الأخرى عوالمَ المعتقلات الأسدية من الداخل، والمترجمة والناقدة السورية رحاب شاكر، التي سبق أن أنجزت دراسةً حول شخصية السجّان في أدب السجن السوري بين عامَيْ 1980 و2008.

الصورة
من محاضرة الطبيب الفرنسي رافائيل بيتي التي قدّمها يوم الجمعة الماضي في نانسي
من محاضرة الطبيب الفرنسي رافائيل بيتي التي قدّمها يوم الجمعة الماضي في نانسي

وفي حين قدّم محاضرةَ يوم الجمعة الماضي، الثاني والعشرين من الشهر الجاري، رافائيل بيتي، الطبيب الفرنسي المختصّ بطبّ الحروب، والذي عُرف بدعمه النظام الصحّي والعاملين فيه بشمال سورية، فإنّ اليوم الذي سبقه من أيام البرنامج، والذي صادف التاسع عشر من الشهر الجاري، كان قد خُصِّص لعرض فيلم "الصرخة المخنوقة" لمانون لوازو. شريطٌ وثائقي تقدّم فيه المخرجة الفرنسية شهاداتٍ لنساء سوريّات سبق أن اعتُقلن في سجون الأسد، وتعرّضن للاغتصاب أو شهدنه أمام أعينهنّ، كما شهدن أقذع جرائم القتل والتعذيب في السجون.

يستكمل البرنامج، اليوم السبت، بطاولة مستديرة تُعقَد في بلدية مدينة نانسي وتحمل أهمّية خاصّة، إن كان لطرحها سؤالاً أساسياً: "أيُّ مستقبل للعدالة في سورية؟"، أو لاستضافتها أحد أبرز الأسماء المشتغلة في مسألة العدالة ومحاكمة الجرائم المرتَكَبة في سورية. الحديث هنا عن القاضية الفرنسية ورئيسة "الآلية الدولية الحيادية والمستقلّة" التابعة للأمم المتحّدة والمختصّة في دعم وتيسير التحقيق في جرائم الحرب بسورية، كاترين مارشي ـ أوهل، والتي يشارك إلى جانبها كلّ من الناشط والمعتقل السابق ومؤسّس "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" دياب سرّية، والباحث الفرنسي المختصّ بالعدالة الجنائية الدولية جويل هوبرشت، الذي يعدّ أيضاً من أعضاء "لجنة سورية ـ أوروبا ما بعد حلب" الفاعلة في فرنسا. 

قد تكون العدالة أفضل ما يمكن التفكير بسورية انطلاقاً منه

أمّا الموعد المقبل من البرنامج، في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، فيتضمّن لقاءً مع المحامي السوري أنور البنّي، المعتقَل السابق، هو الآخر، في سجون الأسد، والذي يتحدّث عن المحاكمات والمساعي القضائية الجارية حالياً في حقّ أسماءٍ منتمية إلى ماكينة النظام السوري القمعية، ولا سيّما في ألمانيا.

في حديث إلى "العربي الجديد"، تقول إيفا لاجاريج، من جمعية "فرنسا، سورية، تعاضُد"، إن اختيار ثيمة العدالة محوراً لهذه النسخة من البرنامج قد جرى "باعتبار أن مسألة العدالة قد تكون، اليوم، أكثر مسألة يمكن أن نجتمع حولها، وأن نفكّر انطلاقاً منها بسورية، خصوصاً في ظلّ المعاناة والإحساس بغياب العدالة اللذين يعيشهما السوريون منذ سنوات، وفي ظلّ إعادة تأهيل نظام الأسد دولياً". 

الصورة
الطبيب الفرنسي رافائيل خلال محاضرته، الجمعة الماضي
الطبيب الفرنسي رافائيل بيتي خلال محاضرته، يوم الجمعة الماضي

وتُشير إلى أن هذا الخيار تحفّزه أهدافٌ تسعى الجمعية إلى الوصول إليها عبر برنامجها: "نرغب في إطلاع الفرنسيين على شهاداتٍ حيّة، فردية، تعطي فكرة عن الفظائع المرتكبة في سورية، كما نرغب في أن يفهم الناس، وأن يدعموا، عمل المجموعة القضائية الدولية العاملة على ملاحقة جرائم النظام. إضافة إلى هذا وذاك، نسعى في هذه النسخة إلى المساهمة، قدر الإمكان، في مسعى العدالة هذا، عبر التشبيك بين منظّمات تشتغل في جمع الأدلّة والشهادات حول جرائم النظام".

وفي سؤال عمّا يمكن لبرنامج ثقافي فعله في بلدٍ تكاد القضية السورية تكون شبه منسيّة فيه، تجيب لاجاريج بأنّه يمكن للثقافة، في انطلاقها من الفرديّ ومخاطبتها للجماعيّ والكونيّ، أن تلفت الانتباه إلى ما يجري في سورية بدرجة قد تتجاوز، أحياناً، التحليلات السياسية والأعمال البحثية. "عبر الثقافة يمكننا تلمُّس شهادات، وتجارب شخصية، ومستويات من التعبير عن المعاناة لا يمكن الوصول إليها بطرق أخرى. وانطلاقاً من هذه التجارب يمكن البناء، في مرحلة ثانية، على المستوى الجماعي. وبالمناسبة، ما تفعله الثقافة هنا، من فعل فكريّ أو فنّي فردي، أو من شهادة توثيقية، يمثّل أولى خطوات العدالة. التعبير عن السخط، فنياً، هو فعلٌ سياسي قويّ. كما يمكن لأدب السجن، على سبيل المثال، أن يكون وسيلةً لتجاوُز المرء شرطَه كسجين أو كسجين سابق، رافعاً قضيّته ليس فقط إلى مجال الهمّ الجماعي، بل لتكون جزءاً من مشتركٍ إنساني كونيّ"، تضيف لاجاريج.

وتختتم المتحدّثة باسم الجمعية السورية الفرنسية حديثها إلى "العربي الجديد" بالتنويه بأهمّية المشترك الإنساني الذي تذكّرنا به قضيّة السوريين: "مسألة حصول السوريين على العدالة ليست مصدراً للأمل بالنسبة إلى السوريين فحسب، بل إلى شعوب العالم أجمع. هي مصدر أملٍ لنا جميعاً بألّا يُترَك الجلّادون بلا عقاب أو محاسبة على الفظائع التي ارتكبوها".

المساهمون