"ذاكرة مدينة من ورق" لألفرد طرزي: نهايات المشروع اللبناني

"ذاكرة مدينة من ورق" لألفرد طرزي: نهايات المشروع اللبناني

28 اغسطس 2022
من المعرض
+ الخط -

"ذاكرة مدينة من ورق" عنوان المعرض الذي نظّمه ألفرد طرزي في "هنغار أمم للتوثيق والأبحاث"، التي أسّسها في بيروت لقمان سليم، الذي مضى أكثر من عام على اغتياله بدواعٍ سياسية. يغطّي المعرض ما يُعادل نصف قرن من تاريخ لبنان الحديث، الذي يمتدّ من أوائل الثلاثينيات، قبيل استقلاله، حتى نهاية السبعينيات، التي اندلعت الحرب الأهلية في أواسطها، أي أنها حقبة تأسيس لبنان وانهياره.
 
كان للبنان في تلك الحقبة تاريخ ومشروع، يستخرجُهما المعرض من مئات الصفحات والأغلفة في صحف ومجلّات تلك الحقبة، التي هي أيضاً، في موازاة التاريخ اللبناني، تاريخٌ قائم بذاته، بكلّ ما يعنيه ذلك على مستويات الأرشفة والتوثيق والتحرير اللغوي والسجال والخطاب. هذا، ولو أنه يعود إلى ألفرد طرزي، يحمل بالدرجة الأولى رؤية لقمان سليم ومشروعه، الذي هو، في صميمه، سجلٌّ يومي للذاكرة، وعَودٌ على التاريخ التفصيلي، وإنشاء لتاريخ موازٍ. المعرض على هذا النحو ذكرى سنوية لغياب لقمان، واستطراد لمشروع تأسيسي أعلى هو، في حياته، مداميك منه.

في المعرض أوّل ما يستقبلنا، وقبالة الواجهات التي تحملُ رسالة المعرض وعنوانه، الفسحة التي عملت على استخراج صفحات وقصّها، على نحو يجعل منها أنصاباً ورقية. إنها صور وكاريكاتيرات من صحف، لا تزال أسماؤها حاضرة في نفوسنا، وها نحن نلتقي بها كأنّما نلتقي بذواتنا. وكأنما نسترجع في هذه القاعة المحدودة ما يبدو جرياناً للزمن، ما يبدو، في الوقت نفسه، استحضاراً لأيام، بل وملاعبة لها. كأنّ الزمن راقص في هذه الفسحة، كأن أياماً تتكلّم وتتحرّك وتلعب في هذه الفسحة، التي تتحوّل، مرّة واحدة، إلى ما يُشبه المسرح، وإلى ما يكاد أن يكون مُصغّراً لتاريخ. 

لبنان الذي كان مدار أحلامنا، لا يكاد يملأ قاعة صغيرة

الصورة
ذاكرة من ورق - القسم الثقافي

لن نرى هكذا "الدبور"، و"ألف ليلة وليلة"، و"الحوادث"، و"بيروت المساء"، و"فلسطين الثورة"، و"الثقافة الوطنية"، و"الأخبار"، و"ماغازين"، و"مونداي مورنينغ"، و"الصيّاد"، و"كل شيء"، و"الحرية"، و"الهدف"، و"الشبكة"، وغيرها. لن نراها الآن فحسب بكاريكاتيراتها وأغلفتها الصارخة، وأشباه عارياتها، وجميلات أغلفتها، وسخرياتها وعناوينها. لن نراها في حرب ولا في معارك.
 
إنه نصف قرن، وسنصادف في أوائله هتلر يلاحق راكعاً سيدة، وبشارة الخوري بين حقيبتين، وعبد الناصر منصوباً واقفاً، والمظلومَين أبو عمار وبيار الجميل في صورة واحدة، وكميل شمعون في زي بابا نويل، وأبو خليل (رمز لبنان في الصيّاد) ينقضُّ على الطائفية ويُلقيها من فوق أرضاً، وسامي الصلح يتأمّل المشنوقين. بالطبع سنجد على الأغلفة الكثير من صور الجميلات، الفنانات غالباً. إذا تصفحنا كلّ ذلك، ولو من بعيد، على الصفحات المعلّقة فوق أشرطة متتالية مصفوفة خلف بعضها البعض، سنجدُ، في وقتٍ واحد، أساطيرنا وأكاذيبنا وأهدافنا. 

نجد على الصفحات المعلّقة أساطيرنا وأكاذيبنا وأهدافنا

سنجد أن الصحف، التي لم تعد موجودة، حاضرة في أمان هنا، وأن لبنان الذي عرفناه، والذي كان مدار أحلامنا، لا يكاد يملأ قاعة صغيرة. إنه، كما تدلُّ الفسحة الأمامية، ليس الآن أكثر من هذه الذكريات، إنه بالضبط مكبُّ الأشياء المهجورة. إنه الآن، بكلّ وقائعه وأشخاصه، يدعونا إلى الضحك من أنفسنا. مع ذلك ليس لنا سوى هذه القاعة المحدودة، ليس لنا سوى هذه الخمسين سنة التي انقضت في الإنفاق على مشروع، انقضت في الصراخ والغناء والزعيق والشجار، حول مشروع ظلّ ضائعاً، وظلّ يبحث عن اسم، وفي النهاية لم يكن له من مصير، سوى هذا اللجوء لهنغار. 

إنه نصف قرن، ليس زمناً طويلاً لنبحث بعده عن تاريخ، بل لنتصيّد هذا التاريخ، ونحبسه في قاعة. لنتكّلم بعد ذلك، وبالطريقة نفسها، كمُتقاعدين يتقاضَون مرتّباتهم من الذاكرة، كعجائز يدخّنون أحلامَهم، في هذا الهنغار كنّا مع ذلك مَرِحين. لقد اكتشفنا هنا أنّنا عشنا، وأنّنا ما زلنا أحياء، وأنّ لنا ماضياً، فيه الكثير من السلاح والجنس، وأنّنا نستطيع أن نُحتبَس مع تاريخنا، وأن يوماً واحداً يكفي لنحتفل بأنفسنا.

على جانب المعرض نجد صوراً كبيرة هذه المرّة لشخصياتٍ من التاريخ، ربّما هُنا الخلاصة أكثر ممّا هي العِبرة. صُور مجسّمة باقية وحدها في نهاية التاريخ، باقية وحدها كأثرٍ أخير للبنان المُفارق.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون