"دنيا زاد" في الخامسة والعشرين

"دنيا زاد" في الخامسة والعشرين

24 يونيو 2022
مي التلمساني في باريس، 2014 (Getty)
+ الخط -

وُلدت "دنيا زاد" قبل خمسة وعشرين عامًا، عام 1997. في واقع الحال، وُلدت الطفلة عام 1995، غيرَ أنّ تدوين حياتها كان عام 1997. لعلّ التدوين هو الولادة الحقيقية، أو لعلّه التاريخ الذي يهمّنا بوصفنا قرّاءً لا نعرف الطفلة ولا كاتبتها. لم أعرفها حين وُلدت، إذ كانت ستنتظرني أو أنتظرها خمس سنوات. عرفتُها عام 2002؛ كنت في السابعة عشرة. أنهيتُ الثانوية ولم أبدأ الجامعة بعدُ. أذكُر التاريخ جيّدًا، لأنّي عرفتُ "دنيا زاد" ضمن مجموعة كُتب من إصدار "دار شرقيات": "وردية ليل" بكل تأكيد، ورواية أو مجموعة قصصية لإدوار الخرّاط. لم أكن أذكر عنوان كتاب الخرّاط لولا ذاكرة ياسر عبد اللطيف، ولولا ذاكرة غوغل (لعلّنا لا نثق بذاكرتنا أو ذاكرة الآخرين بعد ولادة غوغل!): كانت "أمواج الليالي"، وهي - على أيّة حال - ليست من أعمالي المفضَّلة لإدوار الخرّاط.

لا أثق بذاكرة القراءة لديّ، خصوصًا في تلك السنوات، لأنّي كنتُ أَشبه ببلدوزر يلتهم كلَّ ما هو مطبوع أمامه. هل كانت "دنيا زاد" أوّلَ أعمال مي التلمساني التي أقرؤها، أم مجموعتُها القصصية الأولى "نحت متكرّر"؟ لا بُدّ أنّ الروايةَ كانت أوّلًا، ثمّ المجموعة القصصية، ثم رواية "أكابيللا". مأساة مي التلمساني وأعمالُها معي أنّي أُرفقها دومًا ضمن جماعة. إصدارات "دار شرقيات" بادئ الأمر، ثم جيل التسعينيات لاحقًا حين قُدّر لي قراءة مجموعة كبيرة من أعمالهم.

الحِداد، لعلّها الكلمة الدقيقة التي تصف ما يحدث ويُكتَب

وكما كان في الذاكرة التباس، كذا كان التباسٌ في تعريف هذا الجيل المدهش. هم المصريون الذين بدأوا نشر أعمالهم في التسعينيات، متحرّرين (ومتأثّرين في الوقت ذاته) مِن سطوة الأجيال الأقدم، وكانت لهم سطوتهم الخاصّة على الأجيال اللاحقة. ولكن من هم حقًّا؟ ياسر عبد اللطيف حتمًا، إيمان مرسال طبعًا. مصطفى ذكري بكل تفرّده. ماذا عن إبراهيم فرغلي الذي سبقهم قليلًا؟ ماذا عن يوسف رخا الذي تأخّر قليلًا؟ ومي التلمساني التي لا أظلمها حين أراها ضمن جماعة وحسب، بل أخلط في ذاكرتي أحيانًا بين أسلوبها وأسلوب نورا أمين.

ولكن لا. لا ينبغي أن نركن إلى كسل التصنيفات أو غبار الذاكرة. فلننفضه قليلًا كي نرى أسلوب مي التلمساني، وسردها، وتفاصيلها. وبالطبع كي ننفض كسل النقد الذي يُرفق التفاصيل الدقيقة دومًا مع العين السينمائية. "دنيا زاد" (و"نحت متكرّر" أيضًا) ليست أدبًا سينمائيًا إلّا لو افترضنا أنّ جسد الكاتبة هو الكاميرا. ليست العين وحدها، ولا الأذن، ولا الحواس. الجسد بأكمله. نرى ما ترى، نلمس ما تلمس، ولكنّ البراعة، كلّ البراعة، في أنها تُبقي لنفسها حيّزًا ضبابيًا تكتب فيه على هواها: يوميات؟ ذكريات؟ تأمُّلات؟ قصص أم رواية؟ رواية أم نوفيلا؟ نوفيلا أم نوفيليت؟ ليس مهمًّا، إذ نقرأ ونكتب في آن مع الكاتبة ومن دونها. لعلّه الحِداد. لعلّها الكلمة الدقيقة التي تصف ما يحدث ويُكتَب، وما لم يحدث ولم يُكتَب، وما كان ينبغي أن يحدث ويُكتَب. هو الحِداد الذي يكون لغيرنا بقدر ما يكون لنا، أو ربما لنا أكثر من غيرنا. هل يكون الحِداد حزنًا على من رحل فقط، أم هو حزن علينا نحن أيضًا، على ما فقدنا، على ما غيّرَنا، على ما أصبحنا عليه؟

الصورة
دنيا زاد - القسم الثقافي

ليس رثاءً وليست مرثاة. فالرثاء وقتيّ، عابر، خاطف. الحِداد أقسى، أعمق، أطول، هل نُخطئ لو قلنا "أجمل"؟ للألم جمالية أيضًا حين يُدوَّن ببراعة. ليس رحيل دنيا زاد محضَ فَقْدٍ تدوّنه الكاتبة. كان دفتر اليوميات سيكفي. ولا يعنينا دفتر اليوميات إذ هو حيّز شخصي. لنا ما دُوِّن ونُشر. ولذا لم تكن دنيا زاد (الطفلة والرواية) ملكيةً حصرية للكاتبة أو لراويتها، بل كان فسحة حِداد أيضًا للزوج الذي يُقاسمها السرد، ولنا بوصفنا قرّاء، وللراوية نفسها حين تتنقّل بخفّة بين حيوات عديدة، هي الأمُّ والزوجة والكاتبة والصديقة، هي التي فَقدت وفُقدت. هي من تكتب ما غاب، وتكتب كي تخلق خلقًا جديدًا لا لتعويض ما راح، فما غاب غاب ولا يُعوَّض، بل لمحاولة فهم معنى الخلق والتخلّي، معنى الخسارة والمكسب، معنى الطفلة التي رحلت والطفل الذي بقي، معنى ما فقدناه وما لا ينبغي أن نفقد.

ثمّة تفاصيل يوميةٌ كانت ستكون نافلة لو كُتبت ببراعة أقلّ، غير أنّها هنا جوهرية لأنها لا ترتبط بالفقد بقدر ما ترتبط بتشييد عالم جديد؛ ليس مهمًّا هنا ما إذا كان قد شُيِّد على أنقاض عالم متداعٍ أم لا. عالم بقواعد تخصّه، لا يرتبط بالماضي إلّا لأنّ بعض شخوصه عاشت ذلك الماضي. هو ماضي الشخوص الحاضرين، لا ماضي ما رحل ومن رحل. ماضي حِداد قد يتحوّل إلى حاضر حِداد أيضًا، وعلى الأرجح أنه سيغدو مستقبل حِداد، بيد أن هذا - مرة أخرى - ليس مهمًّا. تدوين الرحلة هو ما يهمّ هنا، بصرف النظر عن الغاية. رحلةٌ تأخذنا بين أمكنة متعدّدة، وأزمنة متعدّدة، وفضاءات متعدّدة، قبل أن تُعيدنا في دائرة مُحْكَمة إلى البداية، حيث بدأ كل شيء، ولكن حيث لم ينته كلّ شيء. ثمّة ما بقي ولو كان ضئيلًا. ثمّة ما يستحق أن يُرى ويُسمَع ويُلمَس ويُحسّ ويُدوّن حتى لو كان ضئيلًا، أو ربما لأنه كان ضئيلًا سنفقده - مع ما ومَنْ فقدنا - حين نغفل عن تدوينه.

ربّما فقدنا الكثير لأنّنا لا نُؤرّخ حيواتنا بالحكايات

يُقرأ الأدب ضمن سياقه كما يودّ النقد الثقافي أن يعلّمنا. ما السياق هنا؟ ألم أمّ فقدت طفلتها؟ ألم طفلة ماتت قبل أن تُولد؟ ألم عائلة تداعت صورتها المُتخيَّلة؟ ألم مدن وبلاد وناس فقدوا وسيفقدون، رحلوا وسيرحلون ليفقدهم غيرهم؟ كانت دنيا زاد ستبلغ الخامسة والعشرين، خمس أو ست سنوات أكبر من عمر الفتيات اللواتي يُذبحن في البيوت والشوارع وأبواب الجامعات. أكبر بخمسة عشر عامًا أو عشرين من طفلات مُتن قصفًا وغرقًا وخطفًا. أصغر ربما بخمسة عشر عامًا من الأربعين حيث يبدأ عُمر الحِداد الذي بدأ يقلّ ويقلّ إلى أن بتنا ندخل الحِداد عند الولادة. هي لم تُولَد في الواقع، بل ماتت قبل أن تُولَد، وهي في الخامسة والعشرين لأنّ حكايتها بلغت الخامسة والعشرين في الطبعة الجديدة من هذه الرواية البديعة. لعلنا فقدنا الكثير لأنّنا لا نُؤرّخ حيواتنا بالحكايات.


* كاتب ومترجم من سورية



بطاقة

"دنيا زاد" هي أُولى روايات مي التلمساني (1965)، التي صدر لها أيضاً في الرواية: "هليوبوليس" (2001)، و"أكابيللا" (2012)، و"الكل يقول أحبك" (2021)، وفي القصّة: "نحت متكرّر" (1995)، و"خيانات ذهنية" (1999)، و"عين سحرية" (2017)، وفي اليوميات: "للجنّة سُور" (2009). من دراساتها: "السينما العربية من الخليج إلى المحيط" (1994)، ومن ترجماتها: "لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟" (1999)، لـ إيتالو كالفينو.

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون