"دليل" لفرانتشيسكا بيلّينو: طريقٌ للأطفال الإيطاليين نحو تدمر

"دليل" لفرانتشيسكا بيلّينو: طريقٌ للأطفال الإيطاليين نحو تدمر

21 أكتوبر 2021
فرانتشيسكا بيلّينو (أحمد الحفيان)
+ الخط -

في نابولي بجنوب إيطاليا، صدر للكاتبة الإيطالية فرانتشيسكا بيلّينو عملٌ هو الأول من نوعه بالنسبة لها حمل عنواناً عربياً: "دليل" (منشورات باروميتز، 2021). تبدأ الحبكة كأيّ عمل درامي، بالتوصيف الأرسطيّ، من لحظة الأزمة دون أي شروحات أو خلفيات فائضة: هنا "صديق" طفل تائه وسط الصحراء يبحث عن أخيه. الجملة الافتتاحية للقصّة أتت مرفقة بصورة تُظهر على نحو مسرحي صريح لحظة دخول البطل إلى الركح الصحراوي بثياب عربية. "في الصحراء، ما زلت أمشي، باحثاً عن أخي".  لتتعقّد الأزمة حين نعلم أننا أمام شخصية لا تملك أيّة أدوات تُعينها على إيجاد ضالتها. "مددتُ بصري بحثاً عن الشمال. لكنّ الأفق كان واحداً حيث ولّيت وجهي".

مع هذه اللحظة الأشبه بإشراقة صوفية تبدأ معالم قصّة فرانتشيسكا بيلّينو الموجّهة للأطفال بالتكشّف، وحيث يبدأ الفعل الدرامي بتلبّس روح السرد العربية لا من خلال عناصر الفنتازيا التي ستبدأ بتأثيث العمل فحسب، بل من خلال عمق دلالة الإشارات الاستعارية المعتمدة: "ارتشفتُ شربة ماء، أو أنني تخيّلت ذلك لأسمع صوتاً يصدح من العدم". لتبثّ الكاتبة بذلك الحياة في الفعل الدرامي من خلال قطرة الماء التي ظهرت كهدية من السماء ومعها في تلك اللحظة بطل القصة دليل، وهو الطائر المعروف باسم أبو منجل الناسك. خيار غير اعتباطي، فالأمر يتعلّق بطائر مهدّد بالانقراض يعيش حالياً في المنطقة العربية (بالتحديد في الجزائر وجوارها الصحراوي) بالإضافة إلى تركيا، كما كان يعيش في جبال الألب لكنّه انقرض في أوروبا منذ زمن.

تَحَكُّم الكاتبة بعناصر قصّتها من حيث البناء الدقيق لملامح الشخصيات ــ وإن بدا الأمر أنه يتعلق بقصّة بسيطة موجهة للأطفال ــ يظهر من خلال طريقة تعريف الطائر نفسه للطفل التائه "صديق": "أهلاً بك في المدينة القديمة، اسمي دليل، من سلالة طيور أبو منجل الناسك. آخر الناجين من جنس مقدّس وأسطوري قضى عليه البشر". والواقع أن عناصر الفنتازيا هنا التقت على نحو معرفيّ دقيق مع حقيقة إيجاد مستعمرة من طيور منجل الناسك تعيش في الصحراء السورية في مطلع الألفية بعد أن اعتُقد أنها قد انقرضت من هناك. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الكاتبة قد ذيّلت القصّة بالتنويه إلى أن أحداث عملها تدور في مدينة تدمر. ويظهر مع هذه الإشارة ذكاء الكاتبة في تقديم حقيقة أن ما ضيّعه الإنسان الغربي لا يزال يعيش على نحو قد لا نعرف عنه أي شيء في حضارات أخرى.

طفل سوري وطائر هما بطلا القصة التي تهديها الكاتبة إلى تدمر

كما يجدر هنا التنويه إلى أن فرانتشيسكا بيلّينو ــ التي أهدت عملها إلى مدينة تدمر ــ لم تُظهر في صفحاتها أية نبرة تفجّع، أو شفقة حيال "صديق" (السوري) في ما بدا وكأنه تجسيد لرؤية واضحة للكاتبة التزمت فيها بإظهار شخصياتها العربية على نحو لا يحفظ كرامتها فحسب، بل يُبدي لها عميق الاحترام، ويشيد بخلفيّتها العريقة بالرغم من ظروف الحرب التي مرّت بها أماكن عيشهم المقّدسة في عرف الحضارة البشرية.

ولأننا أمام عمل يقع في الصحراء، نجد الفعل الدرامي ينصهر في مداه مع وسع المكان، وحيث تنسج الكاتبة أحداثاً مفكوكة عن الحبكة كأنها مشاهد لكثبان صحراوية تغيّر شكلها باستمرار. ونجد أنفسنا في إحدى لحظات السرد داخل خيمة تعيش فيها زهرة، في إشارة رمزية لحياة لا تنقطع حتى في ما يبدو وكأنها أماكن هجرتها الحياة. "كيف تمكّنتِ من المقاومة هنا؟". لم يحصل "صديق" على إجابة من الزهرة لكنه أهدى إليها نصف ما عنده من ماء وخلد إلى النوم. لتكون فكرة الكرم والعطاء والمشاركة رسالة أخرى من رسائل القصّة المكتوبة بروح عربية مرهفة.

الصورة
دليل

وتترك بعدها الكاتبة نهايتها مفتوحة على أملْ... وعلى حقيقة أن "صديق" عثر على ضالّته بطريقة ما. "لم يكن هناك سوى الصحراء ولكنّني عثرتُ على بوصلتي". وذلك بعد أن تعلّم الصغير من دليله أن سرّ هذا الطائر الناسك على مواصلة العيش يكمن في قدرته على الحفاظ على ذاكرته القديمة: "ما هذا الذي تحمله في منقارك؟"؛ "أجمع أشياء نفيسة هجرها الإنسان أو دمّرها وأحملها إلى عشّي". وفي ذلك العشّ يجد "صديق" وشاحاً أبيض يشبه وشاحاً يعود إلى أخيه.

عمل يحفظ لشخصياته العربية كرامتها ويبدي لها عميق الاحترام

القصّة التي تقع في 24 صفحة ملونة من القطع الكبير، حرص الرسّام جانلوكا بوتولو على مرافقتها برسومات عكست عمق رسالة الكاتبة، حيث اختار للبطل الصغير ثياباً تراثية (طربوش أندلسي وصدرية عثمانية) لتأتي الرسالة البصرية للعمل أيضاً جليّة واضحة، وذلك بعيداً عن الرسائل الاستلابية التي تسعى لخلع الشعوب عن وعائها الحضاري الطبيعي صابّةً إياها في قالب موحّد هو قالب العولمة. ويبيّن "دليل" للقارئ الإيطالي الكبير قبل الصغير أن لحظة الخلاص من التيه هي لحظة استعادة نفسك من الداخل، من خلال استرجاع كنوزك التاريخية والتمسّك بمكتسباتك الحضارية، وليس التقليب سدىً عن وجهٍ لك بلا جذور في شمالٍ ضيّع هو نفسه البوصلة.

بطاقة
فرانتشيسكا بيلّينو كاتبة وصحافية إيطالية. صدر لها العديد من الأعمال في السرد والتقرير الصحافي، من آخرها كتاب "أغنية حرّة لنجوم المتوسّط" (2019)، الذي تتوقّف فيه عند أسماء موسيقية عربية بارزة مثل فيروز وأم كلثوم. ظهرت بالعربية ترجمة لروايتها "على قرن الكركدن" لدى منشورات "المتوسّط" (2020). تُعَدّ من أهمّ الفاعلين الثقافيين بين إيطاليا وجنوب المتوسّط، و"دليل" هو عملها الأوّل الموجّه للأطفال.


* كاتبة جزائرية مقيمة في إيطاليا

المساهمون