"ثنايا" نجاح زربوط: حلمتُ بأنني جزيرة

"ثنايا" نجاح زربوط: حلمتُ بأنني جزيرة

27 يونيو 2021
من المعرض
+ الخط -

يقع كلّ شيء بين جزيرتين؛ قرقنة التونسية وكورسيكا الفرنسية. الأولى تنحدر منها الفنانة التشكيلية التونسية نجاح زربوط، والثانية مكان إقامة معرضها الأخير، "ثنايا"، الذي يتواصل حتى 30 حزيران/ يونيو الجاري في "متحف فراك" في مدينة كورتي. معرض أقيم بإشراف الكوميسير سيرين عبد الهادي.

يُضيء المعرض روابط كثيرة بين الجزيرتين، روابط غير مرئية تحتاج إلى خيال فنّي كي تظهر للعيان، وإلى ذاكرة تجربة الفنانة أيضاً. فمعرض "ثنايا" يُحيل إلى تجارب فنية سابقة قدّمتها نجاح زربوط، أبرزها معرض "تلاقي الضفتين" بين 2017 و2018، وآخر معارضها؛ "ترفيوم" (2020)، حين تعود إلى ثيمات وقضايا تناولتها مثل الهجرة والبيئة، كما تجرّب مرّة أخرى تقنيات اعتمدتها سابقاً مثل التنصيب والاشتغال على الورق.

هكذا، تتعدّد في "ثنايا" المواضيعُ والخاماتُ والتقنياتُ في آن، كأن تحضر في قاعة واحدة تنصيبة تُظهر كتلة رملية تبدو كأنها تبتلع نبتة وتتجاور مع سلسلة من الفيديوهات معروضة على الحائط المقابل، ما يخلق جواً "يبعث" قرقنة في كورسيكا. وفي قاعات أخرى، نقف على رسومات أو على أعمال تعتمد قصّ الورق وثنيه.

الصورة
معرض ثنايا

في حديث إلى "العربي الجديد"، تقول الفنانة التونسية: "أعود في هذا المعرض إلى هواجس طالما شغلتني؛ أبرزها مآسي الهجرة السرّية بما تختزله من علاقات الشمال بالجنوب، وأيضاً قضايا البيئة وانعكاساتها على عالم الإنسان الباطني. لكنّ هذا المعرض منحني فرصة تطوير تأمّلاتي حول الجُزُر". 

تشرح ذلك بالقول: "كان موضوع هذا المعرض حرّاً ضمن تظاهرة 'أفريقيا 2020' التي تُقدّم تجارب تشكيليين أفارقة في أوروبا. سافرتُ إلى كورسيكا أوّل مرة في بداية 2020، وكان فيروس كورونا يزحف وقتها على مساحات العالم، فتزامنت عودتي إلى تونس مع بدء الإجراءات المشدّدة في المطارات. أعتقد اليوم أن الحجر الصحي قد أتاح لي تأمّلاً أعمق لرحلة كورسيكا، حيث انتبهتُ إلى التباين الجيولوجي الحاد للجزيرة الفرنسية ذات التكوين الجبلي مع جزيرة قرقنة المنبسطة. أحدثَ ذلك انكساراً في صورة الجزيرة في ذهني، وبدأت أفكّر أن أعقد حواراً بين الجزيرتين، ومن ثمّ أخذت فكرة المشروع تتبلور بالتدريج وكثيراً ما جذبت إليها تجارب مصغّرة أنجزتُها سابقاً". 

تضيف: "لقد تغيّرت الصورة التي أحملها منذ طفولتي حتى عن قرقنة. بات المشروع مناسبةً لإعادة فهم قرقنة وإعادة فهم الذات، ولقد تذكّرت لحظات أخرى تغيّرت فيها صورة جزيرتي، فمنذ أعوام ظهر اسمها في أشرطة الأنباء باعتبارها نقطة خروج قوارب المهاجرين السرّيين إلى أوروبا، فانكسرت صورة الجزيرة الهادئة الوديعة، وهو ما دفع بقضية الهجرة بقوّة إلى داخل انشغالاتي الفنية".

الصورة
نجاح زربوط
نجاح زربوط

تشير الفنانة التونسية أيضاً إلى عامل آخر دفع بمشروعها إلى الأمام، وهو وقوعها على عنوان "ثنايا" الذي اعتمدته كما هو في تسمية المعرض بالفرنسية، مع إضافة ما يشبه الشرح؛ "بين ثني وطُرقات"، حيث أن الكلمة العربية تفتح على المعنيين معاً. تقول: "كنت أبحث عن كلمة تجمع بين الفكرة التي أشتغل عليها - والتي كانت ما تزال غامضة في ذهني وقتها - والتقنية التي أعتمدها في أعمالي الأخيرة. في "ثنايا" وجدتُ فكرة التنقّل وتقنية الثني التي أعتمدها. أحبّ هذا الذهاب والإياب بين اللغوي والبصري، وقد وجدتُ أن كلمة "ثنايا" تقع في نقطة تلامس خاصة خلقت طاقة داخلية للمشروع، فمنذ أن وجدتها واستقررت عليها عنواناً للمعرض أعتقد بأنها شكّلت دليلاً نحو كيفية تجسيده".

تضيف: "حتى رسمُها بالعربية، والذي احتفظتُ به في ملصق المعرض الفرنسي، خدمَ ما تطلّعت إليه من دلالات. فمع ألِفَيها الممدودتين، كانت كلمة "ثنايا" تبدو مثل طريق متّجهة من الجنوب إلى الشمال، نفس اتجاه الطريق الذي يتّخذه المهاجرون السرّيون، ونفس اتجاه الطريق من قرقنة إلى كورسيكا. باتت كلمة "ثنايا" صورة ذهينة متجسّدة، لعلّها بدأت تتبلور في ذهني بشكل سرّي حين كنتُ أمرّ بالسيارة في الطرقات الجبلية في كورسيكا؛ كانت تلك الطرقات أقرب إلى ثنايا جرى تحويلُها إلى طرقات معبّدة لمرور السيارات، وكان ذلك مدخلاً لمنطقة أخرى من التجربة ذات منحى إيكولوجي".

تبدو تنصيبة "مقبرة النخيل" والفيديو الذي يقترحه المعرض مثل تجسيد لهذا البُعد الإيكولوجي. كانت شرارة هذا العمل ــ كما تشرح نجاح زربوط ــ حين لاحظتْ تقلُّص النخيل بالتدريج في جزيرة قرقنة، وقد فهمتْ حين سألتْ أحد المختصّين بن عوامل الطبيعة قد انتصرت على جهود الإنسان في إثمار الجزيرة، حيث لعبت الرياح والأملاح دورها في قتل النخيل، وأن هذه العملية مستمرّة إلى اليوم، ولعلّ عملاً فنياً كهذا يوقظ العقل الجماعي للجزيرة ليبدأ في إنقاذ ما تبقّى من نخيلها.

يُظهر ذلك شعوراً حاداً بالجزيرة، ليس باعتبارها مكاناً، بل أكثر من ذلك؛ إنها كائنٌ حيّ متعدّد الوجوه، تُحاول الفنانة التشكيلية أن تتلبّسه ومن ثمّ تجسّده فنياً. لعلّنا لن نفهم عمق هذا الارتباط والحرص على التعبير عن الجزيرة من دون جملة مفتاحية وردت في تقديم المعرض قالت فيها نجاح زربوط: "خلال فترة الحجر الصحّي، حلمتُ بأنني جزيرة محاطة بالأمواج والغيوم".

الأرشيف
التحديثات الحية

المساهمون