"المساعد".. حين استأنف أنستاس الكرملي الصناعة المعجمية

"المساعد".. حين استأنف أنستاس الكرملي الصناعة المعجمية

27 مارس 2021
عمل لـ محمد إسماعيل، 1989
+ الخط -

"المُساعِد" مُعجمٌ من خمسة أجزاء، صدر منها الجُزآن الأوّلان، وظلّت البقيّة الباقية في غياهِب النسيان، حبيسةَ مخطوطٍ، طُمِر تَحتَ الأرض خوفًا من تَسلّط ساسةٍ مستبدّين في بداية القرن الماضي. كان قد حرّرَه الأب أنستاس ماري الكَرْملي (1866 - 1947)، بعدما أمضى في جَمعه وتَحريره، حسب مُؤرّخي سيرته، ثُلُثيْ قرنٍ من الزمن، فاستوى ثمْرةَ عمرٍ كامل من البحث الدؤوب في معاني اللغة العربيّة، التليدة والحديثة.

كانت قصّة النشأة اعتياديّة: قرَّر العالِم اللغويّ العراقي ورجلُ الدّين ذو الأصول اللبنانيّة أن يواصل ما ابتدَأه مُعاصرهُ بطرس البستاني (1819 - 1883)، في كتابه "مُحيط المُحيط"، معتبرًا أنّ سَلَفه لم يستوعب كلَّ ما ظهر في الضّاد من حادث العبارات وجَديد المفاهيم والمَعاني. ومن جهة ثانيةٍ، رأى أنْ يُكملَ "لسان العرب" لابن منظور الأفريقي (1232 - 1311)، ويُضيف إليه ما أهمله من الكلمات العاميّة والدّخيلة. لذلكَ، سمّى معجمَه هذا، في البداية: "ذَيل لسان العرب"، ثمّ ما لبث أن انفصل عن هذه الغاية وتوجَّه لوضع قاموس كامل يضم بَين دَفَّتَيْه ما حَواه "المُحيط" وما انطوت عليه كُتُب الأوائل، مُتّبعًا في ذلك الفيلولوجيا منهجًا في الشَّرح والتحليل، كما مارَسها عُلماء اللغة الألمان والفرنسيّون، خلال القرن التاسع عشر، في دراسة الآثار العربيّة.

كما اعتمد طريقَ المقارنة بين اللغات، عِلمًا متينًا لا مُجرّد فَرضيّات. فاجتهد الأب أنستاس في رَبط الكلمات بأصولها المُفتَرضَة، ثم معاضدة ذلكَ بما توافر لديْه من المَصادر الموثوقة والمعلومات الثابتة. وربّما، لهذا السبب، كان العديد من مفرداته ممّا هُجر اليوم في عَربِيتنا، أو ممّا كان ولا يزال سائدًا في كُتب النبيت والوحيش والأمراض والأدوية، وهي كتبٌ مُختصَّة، وبعضها مهجورٌ متقادِم.

من أثرى ما كُتب من المعاجم عن الضاد في فترة تحوّلها

وقد عضدت أبحاثَ الرّاهب العراقي في أصول الكلمات الأجْنَبيّة مَعرفةٌ دقيقة باللغات الشرقيّة والغربيّة، مثل: الآراميّة والفارسيّة والعبريّة، فضلاً عن الإغريقيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة... كما كان يجتهد في ردّ المُفردات الدارجة، لا سيما العراقية والشامية، إلى أصولها الفصيحة. ولذلك احتوى كتابُه بعض الاستعمالات العاميّة، والتي ربّما ضاع بعضُها اليوم في ما يَتَداوله النّاس من عبارات ولهجاتٍ في مَعيشهم اليومي ببغداد ودمشق والأرياف. كما جمعَ سائر المُوَلدات المتناثرة في الصّحافة، أكانت مُوَلّداتٍ معنوية أم شكليّة. ولهذا يمكن عدّ "المساعِد" بمثابة موسوعةٍ لما طرأ على اللغة العربيّة من دلالات أهملتها المَعْجمات الرسميّة العالِمة.

وكان الرّاهب العراقيّ، في شُروحه الدقيقة للدّخيل والمُوَلَّد والعامي، يَدعَم ملاحظاته بشواهد من دواوين الأدب واللغة والتاريخ، التراثيّة والاستشراقيّة، ذاكرًا ما حصل لبعض الكُتّاب من الأوهام في شرحها، ومُصلحًا ما وقع في تقريراتهم من أغاليط. فلم يخلُ عَمله من تصحيحات لما قاله أساطين اللغة القدماء، مثل ابن منظور، والجوهري، والفيروزآبادي، ولما قاله معاصروه من اللغويين والمستعربين.

الصورة
معجم

ويُعدُّ كلّ مَدخلٍ من المداخِل المُحرّرة في لغةٍ أنيقة، بمثابة سرديّة موجزةٍ مكثّفة لمَعاني الكلمات، تصف تاريخ ما مرّت به من التحويرات الصوتية والدلالية، وتذكر سياقات ظهورها وتحوّلها وتوسّعها، وهذه المداخل حَرِيّة بأن تُستغلَّ في "معجم الدَّوحة التاريخي" وأن تُضاف إلى ما قد أنجِز طَيَّه من تأريخ لمَوادّ الضاد وتعقّبٍ لتغيّر دلالاتِ كلمها عبر العصور. 
ومن أمثلة ذلك، المداخل الشيّقة التي تتناول حقولاً جغرافيّة أو ثقافيّة أو سياسية، والتي تَستقصي، في تاريخ المفاهيم، ما طَرَأ عليها من أخطاء، ففيها نكتشف مثلاً أن تسمية "البحر الأبيض المتوسط"، ترجمةً لــMediterranean،  قد بُنيت على خطأ في الفَهم والتأويل، ومع ذلك لا تزال العبارة ساريةً في الاستعمال اليوم. ومن الطريف ما كتبه عن مفردة أقيانوس، كأقصوصةٍ يُقرَأ.

وقد ظهرت جلُّ هذه المداخل، وبعضها مُطوّل محقّق، في الصّحف والمجلّات العلميّة، ولا سيما تلك التي أصدرتها مَجامع اللغة في العراق ودمشق والقاهرة، أو في مَجلته العلميّة: "لغة العرب"، التي أسّسها سنة 1911، وأصدر فيها ما يزيد على 1300 مقالة، وهي التي شكّلت لحمة مُعجَمه "المساعد" هذا.

لم يخلُ عَمله من تصحيحات لما قاله أساطين اللغة القدماء

وقد بذل مُحقّقا الجُزأيْن الصّادريْن، كوركيس عوّاد (1908 - 1992)، وعَبد الحميد العلوجي (1924 - 1999)، جهدًا كبيرًا، في سبعينيات القرن الماضي لإخراج هذا القاموس (1972)، في أبهى حُلّة مع تحقيق كامل لما وَرَدَ في المداخل من المعلومات والفَرضيات، وذلك باتِّباع نظام صارمٍ من الإحالات والهوامش تَستوعب ما فيها من إشاراتٍ.

وتحمُّلاً منّي للمسؤولية العلميّة، أهيب من مِنبر "العربي الجديد" بكلّ الزملاء والمؤسسات العلميّة المعنيّة والمختبرات البحثيّة، إنشاء لجنة مختصّة لإتمام تحقيق هذا الكنز المغمور، الذي يواصل الاعتكاف في دَيْر الآباء الكرمليين ببغداد ورَقمَنة مضامينه وإذاعته بين الناس، فهو من أثرى ما كُتب من المعاجم عن الضاد في فترة تحوّلها من الحِقبة الكلاسيكية إلى الفترة المعاصرة. ليس من الأمانة أن يظلّ مطمورًا في صفحاتِه بخط يدٍ ناعمٍ تعرّج لعقودٍ، تُحرَم منه الخزانة العربيّة ويعزُّ على الباحثين. نرجو ألّا تَذهب هذه الدعوة سُدًى مثل مثيلات لها.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون