"السلطة تقع في الشارع": إنكار التوافق السياسي

"السلطة تقع في الشارع": إنكار التوافق السياسي

28 سبتمبر 2020
مظاهرة في باريس، 1934
+ الخط -

بعد انتصار الرأسمالية نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ثم مع ظهور تكنولوجيات الاتصال الحديثة، نظّر الكثير من علماء السياسة إلى نهاية الفضاء العام الملموس (الشارع والساحات العامة...) كإطار للصراعات ضدّ السلطة، فاعتبر بعضهم أن ثورات شرق أوروبا هي آخر ثورات الشوارع، فيما ستكون الثورات المقبلة - إن وُجدت - ثورات بملامح مختلفة عبر توجيهات وسائل الإعلام أو من خلال الشبكات ونفوذها.

لعلّ ما حدث في البلاد العربية مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين قد أثبت أن الشارع لا يزال مؤثراً في المعادلات السياسية فقد كان للضغط الشعبي دور حاسم في إسقاط نظام بن علي ومبارك قبل أن تتخذ بلدان عربية أخرى مسارات أكثر عنفاً وامتدادات دولية. وخلال السنوات الماضية، شهدت أوروبا هي الأخرى عودة السياسة بقوة للشارع، بدأ ذلك مع الحركات اليمينية مثل بيغيدا الألمانية، ثم سرعان ما ظهرت حركات احتجاجية موسّعة أبرها بوديموس في إسبانيا والسترات الصفراء في فرنسا.

هذا المشهد ترصده الباحثة دانييل تارتاكوفسكي في كتابها الصادر بالفرنسية مؤخراً عن "منشورات فلاماريون" بعنوان "السلطة تقع في الشارع". ينطلق العمل من ملاحظة تتعلق بالعودة القوية للشارع كفاعل في الحياة السياسية في الغرب، حيث بدا الأمر أوّل مرة كحركات معزولة، ثم تبيّن أن ما يحدث جرّاء أزمة اقتصادية في إسبانيا أو اليونان مثلاً ليس معزولاً عن بقية البلدان، والتي كانت تنشط فيها حركات أخرى قد تكون أقلّ مرئية لكنها هي الأخرى تفعل فعلها في القرار السياسي وتصل بشخصيات كانت في الظل إلى مواقع القرار السياسي. 

لكن العمل وإن كانت منطلقاته راهنة فهو يشتغل على منطقة أخرى من التاريخ، حيث تعود الباحثة العودة إلى الجذور التاريخية لممارسة السياسة من خلال الاحتجاج في الفضاء العام، مبيّنة تطوّر مفهوم "المظاهرة" منذ القرن التاسع عشر إلى أيامنا واشتباكه مع عوامل كثيرة مثل العنف والميديا والكاريزما والتحوّلات السياسية والثقافية.

وعلى عكس القراءات الفوقية التي تجعل من السلطة السياسية نقيضاً موضوعياً للجموع ضمن ثنائية الفصل بين نخب وعامة، فإن تارتاكوفسكي تُظهر أن وراء التحرّكات الشعبية عادة ما تكون هناك قوى سياسية من داخل أجهزة الدولة ذات مصالح في تحريك الشارع. 

الصورة
المظاهرات

لكن المؤلفة تلاحظ أن معظم هذه التحرّكات - أو بالأحرى التحريكات - لا تؤدّي إلى زعزعة في النظام بمجمله حيث تنطفئ جذوتها منذ أن تُقضى بعض المصالح، غير أن بعضها يفلت من كل زمام كما هو الحال مثلاً في مظاهرات 1934 في فرنسا التي كانت بتدبير من قوى سياسية ثم أفلتت منها جميعا بوجود احتضان جماهيري يتجاوزها، وحدث الأمر ذاته مع احتجاجات 1968، التي كانت مجرّد تحرّك فئوي (الطلبة في باريس) غير أنه تحوّل بفضل الاحتضان الشعبي إلى حالة خلخلة حقيقية لنظام حكم شارل ديغول المتمترس خلف شرعية النضال ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية.

على مستوى آخر، تعتقد تارتاكوفسكي أنه من الضروري التفكير في المظاهرات باعتبارها شكلاً غير مكتوب من أشكال التوافق السياسي، ومن هنا دعوتها إلى فهمها كظاهرة صحية داخل الديمقراطية وليست لعلامة من علامات أزمة النظام السياسي.

المساهمون