"الخروج من العقل الهش": كيف تغادر المجتمعات قصورها؟

"الخروج من العقل الهش": كيف تغادر المجتمعات قصورها؟

17 اغسطس 2021
من معهد في تونس العاصمة (فتحي بلعيد/Getty)
+ الخط -

حديثُ إصلاح التعليم أمر دارج في تونس منذ عقود، لكنه بقي لعقود محتكراً من نخب الدولة. في السنوات الأخيرة، نقف على تراكم حول الفكر التربوي في تونس، إذ باتت قضايا التربية وعلومها أحد المحاور التي تتعدّد ضمنها المؤلَّفات، ومن ذلك أعمالٌ لأحمد بوعزي ومحمد كشكار، ومؤخراً الباحث التونسي في علم الاجتماع عبد الوهاب بن حفيظ في كتاب بعنوان "الخروج من العقل الهش: من أجل عقد تربوي جديد" الصادر هذا العام في طبعة مشتركة بين منشورات "سوتيميديا" و"منتدى العلوم الاجتماعية".

يمكن أن نرسم تاريخ تونس الحديث من خلال خطط إصلاح التعليم فيها، وذلك هو المدخل الذي اتخذه بن حفيظ. لكن هدفه لم يكن تأريخياً؛ إنه يقترح رؤية بانورامية لإشكاليات التعليم من خلال جلب أجهزة مفاهيمية متنوّعة لمقاربتها، ومن ثمّ يبلور "سيناريوهات ومسالك" كما يفعل علماء المستقبليات، وإذا كان مبحثنا التعليم والتربية فنحن بالضرورة نتحدّث عن المستقبل. 

حين يستعرض تجارب الإصلاح التربوي في تونس، لا يميل بن حفيظ إلى تجربة دون أخرى، بل يشير إلى أن كل واحدة منها لها منطقها الذي فرضها، وفي الأثناء يرسم شخصيات المشرفين عليها بكثير من التعاطف، من محمود المسعدي وطرحه لـ"تونسة" التعليم في السنوات العشر الأولى للاستقلال، فلحظة الديمقراطية الاجتماعية التي جسّدتها في التعليم خطط أحمد بن صالح، ومن ثمّ إصلاحات محمد مزالي الذي كان يؤمن بالعودة إلى الهوية الوطنية، خصوصاً على المستوى اللغوي، وصولاً إلى أفكار محمد الشرفي التي أدمجت رؤى حقوق الإنسان والرهانات البيئية في المضامين التربوية. هؤلاء الذين جمعتهم المنطلقات وفرّقتهم السياسات، بحسب تعبير المؤلف، قد ساهموا بشكل ما في نحت تونس كما هي عليه اليوم، بسلبيات واقعها وإيجابياته.

فيما تبشّر المدرسة بالعقلانية، ظلّ الواقع يؤمن بالقوة

أحد المظاهر التي يرصدها بن حفيظ هو تراجع سخاء الدولة تجاه التعليم، والذي أنتج بالتدريج حالة من "فقر التعلم" أي تلك الوضعية التي نجد فيها متمدرسين لا يحسنون القراءة أو الإمساك بأدوات الفهم البسيطة، وهو ما ينتج عنه في وقت لاحق تزايدٌ للتناقض بين التوسّع الكمّي للتعليم وعدم القدرة على الاندماج في دورة العمل والإنتاج.

ومع وضع الإصلاحات التربوية في تونس ضمن خط تاريخي، يقترح المؤلف خطاً آخر يتعلّق بالتحوّلات ضمن نظريات التربية، ويقف على ثلاث محطّات في الأولى كان المعلّم محور العملية التعليمية، وهو ما يسمّيه بشكل طريف نموذج "قف للمعلّم"، وفي الثانية بات المتعلّم هو محور التربية ما فرض انهيار نموذج "قف للمعلّم" وهو أمر حتميّ في ظل ضرورة تجاوز البعد الإخضاعي للمدرسة، ولكن كلا النموذجين كان يهمل المحور الذي ينبغي أن تدور حوله العملية التربوية وهو المحتوى المعرفي، وفي حال عدم اعتماد هذا النموذج فإن ذلك يعني الذهاب مباشرة إلى "فقر التعلم"، أو ما يسميه بن حفيظ بالعقل الهش، وهو مفهوم نحته للتعبير عن مفارقة تقوم على هشاشة المعرفة مقابل الوفرة الشكلية للتقنية في الاستعمال اليومي.

يخصّص المؤلف فصلاً لمحاولة فهم أسباب هيمنة "العقل الهش" على مجتمعاتنا، فيذكر مجموعة من "الفجوات" أوّلها أن السياسات الإصلاحية تعمل "دون رؤية" حيث تقدّم مقترحاتها "على مرمى البصر وليس ضمن تصوّر عام" وهنا يقف المؤلف على العلاقات الخطرة التي تربط عمليات الإصلاح بالسياسة في معناها الأوسع، فالسياسيون لا يمكنهم الرهان على المدى الطويل، وهو توجّه يشبّهه بمنطق المؤسسات المالية التي تحبّذ المشاريع ذات الربح السريع. المطلوب في كل مرّة أن يقترح السياسيون حزمة من الإصلاحات الجزئية لأن هذه الأخيرة يمكن قياسها وبالتالي يمكن الاستفادة منها انتخابياً وإحصائياً.

يتحدّث بن حفيظ عن الفجوة القيمية أيضاً، وهنا سيستعيد نموذج "قف للمعلم" ليلاحظ انقلاب دور الرسول (أو يكاد) إلى ضحية للعنف النفسي (والبدني أحياناً)، وهي وضعية لها انعكاسات وخيمة منها فقدان المعرفة القدرة على التأثر في الواقع.

لا يمكن الاستفادة من التراث التربوي بمنطق أخذ أو ترك الكل

يرصد المؤلف كذلك ما يسمّيه بـ"فجوة الكلفة المعكوسة"، ولتوضيح هذا المفهوم يضرب مثلاً بسيطاً: "هي مثل من يبني بيتاً مع تخصيص مسبق لأكثر من نصف المزانية للديكور على حساب بناء الخرسانات والأعمدة والجدران"، والنتيجة هي فقدان شروط السلامة، ويكون "عمر البيت محدوداً" بعبارة المؤلف.

لكن، وحتى لو توفّرت شروط العقل الهش في تونس فإن ذلك لا يعني أنه قد تحوّل إلى حتمية تاريخية، ذلك أن حسن اختيار الإصلاح يمكن أن يغيّر أحوال المجتمعات، وهو هنا يضرب أمثلة من كوريا الجنوبية واليابان والبيرو وفيتنام، مع الإشارة إلى أنه لا يمكن نقل إصلاحاتها بشكل تقني للحصول على نفس النتائج، إذ ينبغي خلق سياقات عامة مثل ثقافة المواطنة وتربية المخيال الجمعي، كما يؤكّد المؤلف على نسبية القيم، فاليابان مثلاً قد حوّلت تقاليد مجتمع الطاعة عندها إلى محرّك نهضوي فانتقلت عقلية الإخضاع إلى ثقافة مشاركة واحترام ومواطنة.

ضمن هذا السياق، عاد بن حفيظ إلى التراث التربوي العربي في لحظة نقل المعرفة اليونانية إلى اللسان العربي، وقد لحظ بأن عملية ضخ المفاهيم الفلسفية في المدوّنة الفكرية العربية كانت انتقائية، من ذلك أن مفهوم المواطنة الذي كان يظهر في تنظيرات أفلاطون وأرسطو بقي مهملاً نظراً لضخامة فكرة الجماعة وطغيان فكرة الولاء بالنسب وهوية المذهب. يؤكّد المؤلف هنا أنه لا ينبغي أن نأخذ هذه الانتقائية على الوجه السلبي وحده، فوراءها يكمن "نوع من العقلانية الداخلية لمنطق التضامن الجماعي".

هكذا يلمّح بن حفيظ إلى أنه لا يمكن الاستفادة من التراث التربوي العربي من خلال أخذ الكل أو ترك الكل. تتعلّق المسألة بحسن استعمال هذا التراث، والاستئناس بتجارب الشعوب الأخرى للوصول إلى التغيير المأمول والذي يصوغه الباحث التونسي في فصل فرعيّ بعنوان "من أجل عقد تربوي جديد"، وهنا يستدعي مفهوم "الكتلة التاريخية" من المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي إذ يُدمج هذ المفهوم المثقفين والحس المشترك ومشاريع التغيير الاجتماعي والتي تمثّل التربية إحدى أدواتها.

الصورة
الخروج من العقل الهش

يؤكّد بن حفيظ ضرورة فهم الجو السائد للمجتمعات باعتبار هذا الأخير محصلة للتوازنات النفسية والاجتماعية للحظة التاريخية، وانطلاقاً منها يمكن صياغة إصلاحات تهدف إلى تغيير العقليات، وإلا سيكون الأمر كما نراه اليوم: مدرسة تبشّر بالعقلانية مقابل واقع يؤمن بالقوة، ما يجعل من المواطنة فضاءً تراجيدياً وهو ما يعطّل كل أمل في التقدّم نحو تغيير عميق.
بهذه الصورة، نفهم أيضاً الخيبات المتتالية للإصلاحات التربوية، ليس في تونس وحدها، بل في مجمل البلاد العربية، حيث تأتي المقاربات مسقطة وعلى مقاس سياسات فئة غالبة تجعل من المدرسة وسيلة من وسائل هيمنتها على المجتمع ومقدّراته، وهذه الفئات تعمل على إقصاء فئات أوسع من التدخّل في الشأن العام ومنها مسألة الإصلاح التربوي.

رغم قتامة هذا الواقع، فإن نفَساً تفاؤلياً يعبر كتاب "الخروج من العقل الهش"، رسّخته الكثافة المعلوماتية، خصوصاً تلك المقارنات التي تثبت أن إصلاح التعليم ليس حكراً على البلدان المتقدّمة، فمثلاً يذكر المؤلف أن برامج تقييم جودة التعليم الدولية في 2012 أثبتت أن فيتنام حققت نتائج تضاهي ألمانيا. من هذا المنظور فنحن لا نتحدّث عن مستحيل إذا كنا نطمح إلى نهضة عربية جديدة، يحتاج الأمر إلى إرادة وصبر أجيال. لنتذكّر عبارة المؤلف وهو يؤكّد: "لا توجد حتميات نهائية ضمن معارك المجتمعات ضد هشاشة التعليم".

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون