"الإنسان والعمران واللسان": قراءة في أمراض المدينة

"الإنسان والعمران واللسان": قراءة في أمراض المدينة

02 أكتوبر 2020
أسامة بعلبكي/ لبنان
+ الخط -

صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "الإنسان والعمران واللسان: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية"، للباحث المغربي إدريس مقبول. الكتاب قراءة عابرة للتخصصات لأمراض المدينة، تلتزم قدرًا أكبر من الجرأة، وقدرًا أقل من الانغلاق في تجاوزها حدود القطاعات المعرفية الصارمة وفي مقاربتها المادي وغير المادي من أعراض مرض التمدن في الفضاء المدني، من أجل بحث العلاقة بين اللساني والاجتماعي. ويحاول الكتاب أن يقدم تفسيرًا لعدد من الظواهر التي باتت اليوم علامة واضحة ومؤشرًا دالًّا على "مرض المدينة"، وعلى "تشوهات حياتنا المدنية" التي تعتبر نتيجة طبيعية للإقبال على المدينة من دون تخطيط أو تفكير.

في القسم الأول، "من سيميولوجيا التدفق إلى سوسيولوجيا العزلة"، أربعة فصول. وفي الفصل الأول، "المدينة وتدفق العلامات"، يقول المؤلف إن التدفق هنا مفهوم رقمي ينتمي إلى عالم الاتصالات، لكنه يتسع ليشمل جميع الديناميات المتجهة "من تدفق المال، كما تصف أرديس باترفيلد المتخصصة بأدب جيفري تشوسر، وتدفق الأضواء على النحو الذي يشبّهه فيه الكاتب الألماني ألكسندر كلوغه بفوضى الحواس: ’تمامًا مثل الأضواء بين المدن، مثل تدفقات الأضواء، وكل جانب من المدينة يؤثر بكمية الأضواء الناتج عنه على الجانب الآخر‘، وتدفق البشر على نحو ما وصف روب شيلدز، أو كما رسم الغيطاني إحساسه الداخلي بالدينامية المتدفقة في فضاء مدينة نيويورك: ’تدفق البشر في الشوارع كثيف، كلهم مسرعون، رغم أنهم جمع فإنهم فرادى‘. التدفق هنا عددي ويفتقر إلى الرابطة وإلى المعنى، ولهذا كان كل من قصدها غريب، وعندما يصبح الكل غرباء، ينتفي الإحساس بالغربة".

يحاول الكتاب أن يقدم تفسيرًا لظواهر تشير إلى تشوهات حياتنا المدنية

يرى المؤلف في الفصل الثاني "هوية الفضاء ودينامية الرمز" أنه كان للمدينة العربية في التاريخ الوسيط طابع عمراني وهوية عمرانية يعكسان فلسفة الوجود والإنسان ورؤيتها النسبية المنسجمة لقيم الجمال والآخر والأخلاق، ولتنظيمٍ مركَّب لقطاعات الاقتصاد والتجارة والصناعة والفلاحة وغيرها، إضافةً إلى انسجام ذلك مع مناخ الجغرافيا العربية الذي كان ملهمًا لكثير من الإبداعات الهندسية؛ إذ كان المسجد الجامع في قلب المدينة، ولم يكن رمزًا للعبادة والتنسك فحسب، أما اليوم، وأمام انتكاسة الفكر والذوق والجمهور العربي والسياسة العربية، انتكس التخطيط، بل بات هناك تخطيط لا يؤشر إلى هوية محددة، فهو الفوضى بامتياز.

يوضح مقبول في الفصل الثالث "آلة المشاعر السوداء" أنّ المدينة العربية الحديثة تصنع المتناقضات السخيفة، بل إنها تستفيد منها وتتغذى عليها؛ فـ "وراء كل الأوضاع المختلة وغير الطبيعية أكداس من مشاعر الغضب والحقد على النازحين، إنهم سبب كل آلام المدينة وفاقتها. 

ويشير المؤلف في الفصل الرابع "إنسان معزول وسط الزحام" إلى أنّ المدينة مجال للتعايش الثقافي، وهي في قلب ذلك نُظم من الإدارة والتفكير والمواقف والقيم، أو هي نمط حياة خاص قبل أن تكون جغرافيا مملوءة أو ديموغرافيا حية؛ "إنها مساحة للتواصل بين القيم المدنية والفكرية التي تتساند من أجل ترسيخ مستوى من العيش المشترك المبني على التربية وعلى الاحترام والتسامح الذي يجمع المعتقدات كافة وحقوق الإنسان والخضوع لسلطة القانون. 

الصورة
غلاف الكتاب

يشتمل القسم الثاني "من علم نفس العمران إلى الاقتصاد السياسي للسان" على ثلاثة فصول. ويشير المؤلف في الفصل الخامس، "انسدادات وتحولات"، إلى أن الدراسات والبحوث التي اهتمت بسوسيولوجيا الجيرة في المدينة وتأثيراتها وتأثراتها تفيد أن منطق الحاجة والتعارف هو الذي يحكم علاقات الجوار في الفضاءات التقليدية.

"أطر السيطرة الرمزية وهوامش المقاومة الصاعدة" عنوان الفصل السادس، و"تراجيديات العنف الحضري والتلوث السائل" عنوان الفصل السابع الذي يردُّ المؤلف فيه جزءًا من التلوث البصري إلى أسباب معرفية قبل أن تكون ذوقية، فـ "التلوث المعماري المنتشر، والمعمم اليوم، ما هو إلا نتيجة لما يسمّيه رفعت الجادرجي ’الإقحام الشكلي الفاسد‘، وهو عنوان تردّي ثقافة العمران في المجتمع بأسره.

وفي خاتمة بعنوان "استعادة الأمل"، يرى المؤلف أن الأنساق العمرانية هي أنساق سيميائية ذات بُعد ثقافي بالدرجة الأولى، أي إنها تحيل إلى الإنسان وثقافته في أخص خصوصياته، وهي حين تنتقل من دون وعي من سياق حضاري إلى آخر توزع استبدادها وقهرها على الذين انساقوا في لحظة انزلاق حضاري إلى ومضة علامة يجهلون عواقب تبنيها.

المساهمون