"إطاعة القانون" لـ سولون: ذلك العدل الذي كان يصمت

"إطاعة القانون" لـ سولون: ذلك العدل الذي كان يصمت

22 ديسمبر 2021
لقاء سولون والملك كرويسيوس في عمل يعود إلى منتصف القرن السابع عشر (Getty)
+ الخط -

منذ أن أتاحت لي "العربيّ الجديد" فرصة نشر قصائد مترجمة من اللغة اليونانيّة، في إطار نهجٍ تفرّدتْ به، وهو الانفتاح على الأدب العالميّ الذي يُكتب اليوم، فضّلتُ التركيز على الشعر المعاصر المكتوب باللغة اليونانيّة الحديثة. غير أنّ في شعر اللغة اليونانيّة القديمة كنوزاً ثمينة تزيّنت بها حضاراتٌ مختلفة بدرجات متفاوتة ولم تُتَرجَم إلى العربيّة.

القصيدة التالية كتبها سولون، أو صولون، الأثينيّ، المشرِّع المصلِح الذي عاش بين منتصف القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. ظروف المجتمع الأثينيّ في عصره ألهمتْه كتابة الشعر السياسيّ. في هذا المحلّ تجدر الإشارة إلى أنّ ما تُرجِم بمصطلح "السياسة" إلى العربيّة ليس هو المقصود تماماً بالكلمة اليونانيّة المقابلة. السياسة، في لغتنا، هي الإدارة، أمّا في اليونانيّة فتعني كلّ ما له علاقة بتدبير شؤون المدينة، أي ما له علاقة بالشأن العامّ. ولهذا فللكلمة بُعدٌ اجتماعيّ. العناية بشؤون المواطنين اليوميّة، التي لها طابعٌ عامّ مباشر أو غير مباشر، تقع في صلب الدور السياسيّ، بمفهوم اليونانيّين القدامى - ناحِتي اللفظة.

في عصر سولون، عمّ الفساد أثينا، واختلّ ميزان العدل فيها، وانتشرت الفوضى، فَراحَ الشاعر المصلح يلقي قصائده منبّهاً أهل مدينته إلى سوء حالهم، ومرشداً إلى إصلاح الحال. من أبرز قصائده في هذا المجال، تلك المعروفة بعنوان "إطاعة القانون". ذاعت شهرة سولون بفضل شعره، ما دفع أهل مدينته إلى توليته عليهم لمعالجة مشاكلهم، فأنتج شرائعه المعروفة.
القصيدة المُترجَمة هنا تخضع لبنية شعريّة استُعمِلَت بدايةً للرثاء، ثمّ خرجت عن هذا الغرض، واعتُمِدَت لبقيّة أغراض الشعر عموماً. تقوم هذه البنية على الوزن المُصَبَّع السُداسيّ (dactylic hexameter) في البيت الأوّل، ثمّ الخماسيّ (dactylic pentameter) في البيت التالي، مع تكرار النسق.

في قراءة أولى لمضمون القصيدة، يتبيّن تناسق أفكارها من حيث إنّ الشاعر يصف حالة المدينة، ويشخّص العلّة، ثمّ يحذّر من عواقبها، وأخيراً يقترح الحلّ. اللافت أنْ لا دورَ للآلهة في هذه القصيدة سوى حماية المدينة، لكنْ من غير أن تتدخّل في شجون أهلها اليوميّة حتّى ولو أَفنى الناس بعضَهم في نزاعاتهم. 

لغتنا العربيّة أعطت معنىً ووظيفة محدّدتين للأدب: أن يكون وسيلةَ تهذيب للنفس والعقل. فيتدرّب المرء على استشفاف الجمال أينما كان. والشِّعر، لغةً، هو العِلم بالحدس، قبل أن يُبوَّب في أغراض ومذاهب وطرائق نظم. من هنا، يمكن القول إنّ كلّ شِعر يُستَذاق وفق الجمال الذي يحمله: جمال الفكر، أو الوجدان، أو اللغة؛ فكم بالأحرى عندما يقود الشعر مسيرة إصلاح الناس وهدايتهم.


إطاعة القانون

مدينتنا لن تفنى أبداً ما دامت متمسّكة
بمشيئة زفس والآلهة المغبوطين الخالدين وقِسمتهم.
فالعظيمة الأناة، بنت الجبّار، أثينا فالاس**
المُشرفة عليها تُظلّلها بيديها.
أهلُ المدينة نفسهم يرغبون بطيشهم
أن يُفسِدوا المدينة العظمى منقادين إلى المال،
وعقلُ زعماء المدينة الجائر بسبب فداحة عصيانهم
سيجلب أوجاعاً كثيرة.
لأنّهم لا يعرفون أن يكبحوا الشراهة
ولا أن يُعِدّوا مأدبةً بالمباهج الحاضرة بسَكينة.
(...)
يغتنون منقادين إلى مظالم الأفعال.
(...)
لا يوفّرون الممتلكات المقدّسة ولا تلك العامّة
يسرقون نَتْشاً كلُّ واحدٍ من جهة،
ولا يحفظون أُسُس العدل الموقَّرة،
ذلك العدل الذي كان يصمت عمّا جرى قبل الآن،
لكن سيحين الوقت ليُجازي،
وهذا سيأتي على كلّ المدينة بجُرْح لا مناصَ منه.
فتكون المدينة قد وقعت سريعاً في العبوديّة الأسوأ
التي توقظ من الهجعة العصيان أو الحربَ الأهليّة
الحربَ التي تُفني ريعان عُمْر كثيرين.
ومدينتا الحبيبة بسرعةٍ تُقاسي من العداوة
وسطَ صراعات حاصلة بين أحباب.
هذه السيّئات تنقلب على الناس. ويبلغ فقراء كثيرون أرض الغُربة
مَبيعين مُقيَّدين بالقيود المُهينة.
(...)
هكذا تصل المصيبة العامّة إلى كلّ بيت
ولن تشاء أبوابُ الأَفْنية أن تصدّها
تثب فوق السِّياج العالي فتجد حتماً
حتّى الذي يكون هارباً في أعمق مَخدَعه.  
هذا ما تحضّني نفسي أنْ أعلّمه للأثينيّين،
أنّ الخروج عن القانون يُنتج ما لا يُحصى من السيّئات
أمّا إطاعة القانون فَتُبيّن كلّ لياقة وكمال
وغالباً ما تُقيّدُ أرجل الظالمين بالأصفاد.
تليّن كلّ خشونة، وتقطع التجاسر، وتهدّئ العصيان
تُذْبِل زهورَ الذنوب البارزةَ
تقوِّم الأحكام المعوجّة، وتُخمِد أعمال الكبرياء
تُبطل أعمال الفتنة
تكفّ غضب الشّقاق العاصف
في كنفها كلّ شؤون الناس تكتمل وتتّسق.


* مترجم لبناني وأستاذ في معهد اللغات بجامعة أثينا
** يختلف المفسّرون في معنى هذه الكلمة. فهي ترد في إلياذة هوميروس أوّلاً. لذلك آثرنا النقل عن الكبير سليمان البستانيّ الذي لم يترجم الكلمة بل نحا نحو غيره من المترجمين معتبراً اللفظة بمثابة الاسم العلم. أحد المعاني هو "المقترِعة"، أي تلك التي تهزّ وعاء الأسماء ليخرج منه الاسم المقترَع. وهو إيحاء إلى عمليّة اختيار المسؤولين في أثينا القديمة، إذ كانت تتمّ في إحدى مراحلها بحسب القرعة. ومعنىً آخر هو تلك التي تهزّ الرمح والتِّرس تهيُؤاً للمعركة. ومعنىً آخر هو الحامية. ومعنى أخير هو الفتاة العذراء. هذا الغموض في المعنى يعود إلى اليونان القدماء نفسهم، فاقتضى اتّباع نهج البستانيّ وسائر مترجمي هوميروس.

المساهمون