"أمس اليوم" لوضاح شرارة: بين الواقعة ومداها

"أمس اليوم" لوضاح شرارة: بين الواقعة ومداها

05 يوليو 2022
وضّاح شرارة
+ الخط -

لا تفاجِئ "أمس اليوم" لوضّاح شرارة، لا يفاجِئ كونها الرواية الأولى بعد مسار طويل من التأليف في الدراسات والأبحاث، إذ هي رغم ذلك تكاد تكون منتظرَة، فمن يعرفْ كتابات وضّاح شرارة يجدْ في غليان الحياة التي تعمرها، والعلاقات التي تتكشف فيها، والوجوه الكثيرة لهذه الصلات، وفوارق ما بين الحركات وثقافاتها وما ينبني من ذلك كله، يجد أن هذه تُضمر روايات، أو تكنُّها وتبقى على مشارفها. رواية وضاح شرارة لذلك منتظرة، فمن الملاحظ أنّ سمتاً روائياً، أو أنّ رؤية روائية تحيط بدراسات وضاح، وتكاد تستقطبها.

من هنا فإنّ روايته الأولى لن تكون انتحالاً للشكل الروائي أو توسّلاً له، كما قد نتوقّع من رواية مفكّر في أهميّة وضّاح شرارة. لن يكون امتداحاً لـ"أمس اليوم" أن نقول إنّها رواية حقّة. الأمر يتعدّى ذلك. "أمس اليوم" ليست فقط ذلك، إنّها نمط خاصّ من الرواية، هي فريدة في هذا الباب، فريدة في فنّها الروائي. لها في هذا تجربتها وخواصّها وأسلوبها ومسارها وبنيانها، بحيث يمكن القول إنّ عندها ما تقوله في هذا الفن. عندها ما تكشفه وما تحقّقه وما تضيفه وما تقترحه. نحن هكذا أمام درس في هذا الباب.

إذا خطر لنا أن نتساءل عمّا يُمكن أن يُقدّمه للرواية ناقدٌ لها كوضّاح شرارة بل أن نتذكّر على سبيل المثال ما سبق أن كتبه في هذا الصدد. لنتذكر مثلاً تأمُّلَه الطويل في رواية حسن داوود "بناية ماتيلد" وهو ما تراءى أنه أشبه برواية على رواية. نعود إلى ذلك لنجد وضّاح قارئ الرواية، على النحو الذي قرأها به، هو الآن يعود بالدراية نفسها، وبالحدس والإيغال نفسيهما، كاتباً للرواية. لن نجد إلّا أنّ الكاتب هو ذاته القارئ، والكتابة لا تعني سوى إحالة القراءة الى ممارسة وتحقيق. هكذا نجد الرواية المكتوبة تنبض بنظر في الرواية. الكتابة هي مثال للقراءة، وما فعله الكاتب يكاد يكون، من ناحية أخرى، نظريّة في الرواية.

عالم مرسوم لقطة لقطة ويعجّ بساحات وتفاصيل وإلماحات

هنا في "أمس اليوم" نجد الفتى الذي انتقل إلى بلدة أبيه، إلى الحي الذي يعجّ بالأقارب، الأخوال والأعمام والخالات والعمّات، وأبنائهم وجيرانهم. هنا نرى كيف تُصنَع العلاقات، وكيف يغدو الحيّ ساحة لها. هنا نجد الفن الذي يوازن بين الواقعة ومداها، ويخلق منها صورة ومطلاً واستشرافاً. نجد الحركات تتّصل بما بعدها، وبما يوازيها، وبما يكاد يكون معناها، أو واحداً من معانيها. نجدُ الحيّ وقد استحال عالماً يعيش بالشخصيات والعلاقات. نجد الحدث وقد تحوّل إلى صورة، وإلى طابة، وإلى خلق، وإلى شخصية. الحدث الذي يُفسح عن نفسه، وعمّا أبعد منه. إنّنا هكذا في عالم مرسوم، لقطة لقطة، عبارة عبارة، وحركة حركة. هكذا يعجّ العالم بهذه الساحات من الصِّلات والحركات والتفاصيل والإلماحات.

الصورة
أمس اليوم - القسم الثقافي

هكذا نحن في اليوم، في عالمه وفي ثوانيه. الزمن هكذا هو هذه الصغائر. لكنّ الأمر لا يقف هنا، إذ إنّنا نخرج مراراً ولمدى طويل، من الغليان اليومي إلى ساحات وفسح ننتقل فيها من الكثرة اليومية إلى آحاد مديدة. هكذا نجد الفتى وأخته أمام ما يمكن أن يكون وعاء الفئران الصغيرة. هكذا، في محلٍّ آخر، نجد الفتى وهو يجسُّ جسد قريبته سناء، ويدسُّ يده بين فخذيها. هناك أيضاً مشهد الشغالة وهي تمثّل لهم بيدِها الحَيض. أمام هكذا نسج، واستطالة مشهدية، لا يعود عالم الرواية هو التنقُّل والتوزُّع والكثرة التفصيلية بقدر ما يغدو مسرحاً ومشهداً، من على ما يشبه المنصَّة.

هكذا نقف في ختام الرواية أمام حدث طويل، يفصح في حياته الكثيرة ودقائقه وثوانيه، عما يبدو ساحة أخرى للبلدة وعالماً ثانياً لها، ثانياً وإن استُخرجَ من العالم الأوّل، بحيث نقف أمامه وأمام ثوانيه وهي تتلاحق، نظرة بعد نظرة، بما يشبه الشعر، وبما يطلُّ على أبعد من الحي والكثرة. يطلّ على ما يبدو، من بعيد وقريب، طيفيّاً وإشكالياً وسؤالاً وهمهماتِ حدث ينتشر طيفياً، ويحوم فوق التفاصيل، وفوق اللقاءات وفوق الثواني اليومية.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون