"أمرٌ بسيط للغاية" لوليد الشيخ: إرجاع الأشياء إلى العالم

"أمرٌ بسيط للغاية" لوليد الشيخ: إرجاع الأشياء إلى العالم

24 فبراير 2021
وليد الشيخ خلال "احتفالية فلسطين للأدب"، رام الله، 2015 (روب ستوثارد)
+ الخط -

عندما أصدر الشّاعر الفرنسيّ جاك بريفير (1900 – 1977) كتابهُ المعروف "كلمات" (Paroles)، سنة 1946، انقسمت السّاحة الأدبيّة والنقديّة الفرنسيّة إلى موقفَيْن متناقضين: الأوّل اعتبر الكتاب تافهاً وخالياً من الشّعر ومجرّد مواقف ذاتيّة ساخرة أو يوميّات لا علاقة لها بالكتابة الشعريّة، والثاني اعتبر أنّ البساطة التي كُتبت بها نصوص هذا الكتاب تُخفي وراءها وعياً مكثّفاً بالكلمات والأشياء وهندسة بنائيّة دقيقة تجعلها في خانة ذاك النوع السهل الممتنع من الشّعر.

وقد قاد هذا النقاش جيلاً بأكمله إلى إعادة النّظر في مفهوم الشعريّة في حدّ ذاته، سواء من ناحية علاقته بالمؤسّسة البلاغيّة الكلاسيكيّة والوصفات الجاهزة الّتي تقدّمها لفنّ الشعر، أو من حيثُ أفق التلقّي وعلاقته بصياغة مفاهيم بلاغيّة جديدة خاضعة إلى الوضعيّات التخاطبيّة في حدّ ذاتها، لا إلى النصّ باعتباره أفقاً مسدوداً أو بُنيةً منغلقة على ذاتها.

تذكّرتُ هذيْن الموقفَيْن مرّتين: الأولى وأنا أعمل على ترجمة كتاب للشّاعر الفرنسيّ المعاصر كريستيان بوبان، وقد وجدتُ هذا الكتاب ترجمةً فنّيّة لمختلف النّقاشات المُشار إليها، والثانية أثناء قراءة الكتاب الشعريّ الأخير للشّاعر الفلسطينيّ وليد الشّيخ، "أمر بسيط للغاية"، الصّادر حديثاً عن "الأهليّة للنشر والتوزيع".

فعندما تقرأ هذا الكتاب لن يكون أمامك سوى خياريْن: الأوّل أن تتركهُ جانباً وتقول بكلّ ثقة في النّفس: "هذا ليس شعراً"، فينتهي بك الأمر خاسراً لذّةً جماليّة ممكنة. والثاني، أن تتواضع بعض الشيء وتنسى كلّ ما تعرفه عن الشّعر وتترك نفسك للكتاب بينما تنفتح أبوابُه باباً بعد الآخر لتقودكَ في هذا العالم، الّذي صار معقّداً جدّاً، إلى "أمور بسيطة للغاية". أليس الشّعرُ في النهاية تلكَ المساحة الجماليّة التي يتيحها لنا الشّعراء كي نعود إلى ذواتنا وأشيائنا البسيطة؟

كتابةٌ عارية تتسلّح بالهامش وتجعل منه مركزاً

لقد تعوّدت الذّائقة الجماليّة العربيّة لوقت طويل على "نوع معيّن" من الكتابة الشعريّة، إلى درجة أصبح معها تمثُّلنا لكلّ ما هو شعريّ قائماً على تصوّرٍ سابق للكتابة الشعريّة نفسها، وهو أمرٌ أدّى إلى اجترار معاجم مشتركة وصور متكرّرة في تجربة أكثـر من شاعر. وإذا ما نظرنَا في نصوص وليد الشيخ في هذا الكتاب، سنجدُ أنّها ضدّ الكتابة نفسها، أو لنقلْ ضدّ أن يكون للكتابة قالبٌ جاهز أو مؤسّسة بلاغيّة تدافع عنها. وقد نجح الشّيخ في ترجمة هذه الكتابة الضدية شعريّاً، من خلال ثلاثة محاور على الأقل: الأوّل؛ عُري الذّات، والثاني؛ تحويل الهامش إلى مركز، والثّالث؛ قلب العلاقة بين الشّعر والعالم.

بينما تقرأ "أمر بسيط للغاية"، ستجدُ نفسك أمام ذاتٍ عارية، غير أنّ هذا العُري لا يعني فحسب أن تقول الذّاتُ أشياءَها الحميميّة وذكرياتها وتاريخها الخاصّ ورؤيتها للعالم، وإنّما يتجاوز ذلك ليشمل أيضاً الطّريقةَ التي يُقال بها هذا العُري، على نحو تصبح فيه الكتابة عاريةً أيضاً. عارية من هوَسها باتّباع طريقة عسكريّة في قول نفسها، وعارية من الاهتمام بأيّ صَلَفٍ لغويّ قد يُفسد عليها الاستمتاع بهذا العُري. هكذا أفهم هذا "الشيوعيّ الأخير" في ظلّ عالم يفقد معناه يوماً بعد يوم. وهكذا أفهم إقامته القلِقة في "تلك التشكيلات الحمقاء/ الّتي ظلّت عالقة/ بين التفعيلة وجسارة النثر" (ص17).

الصورة
الغلاف

ولمّا كانت سلطة المؤسسات البلاغيّة بمثابة السّتار السميك الّذي يحجبُ عنّا العالم "كما هو"، تسلّحت هذه الكتابة العارية بالهامش وحوّلتهُ إلى مركز، أو ربّما أعادته إلى مكانه الطبيعيّ باعتباره فائضَ معنىً طارئٍ على الوجود الإنسانيّ. ولأنّ "الأشياء حدثت" (ص31) في غفلة منّا، أعاد وليد الشّيخ صياغتها على نحو يُصبح معه اليوميّ والبسيط والمألوف موضوعاً للكتابة الشعريّة. سيقول أحد المترفين: ما الشّعري في أن تُقصَف غزّة؟ وما الشعريّ في زوّارٍ "يضحكون طوال الوقت على أشياء غريبة" (ص45)؟ وما الشعريّ في أن يعرف الشّاعر "أكثر من هذا الّذي يكتبه/ دون أن يعرف كيف يكتبه" (ص49)؟ ما الشعريّ في قول "صباح الخير"(ص53)؟

لا يحاول وليد الشّيخ تقديم أيّ إجابة، وربّما إذا سأله أحدهم عن ذلك سينفجر في وجهه: "وما الشعريّ في أن نواصل كتابة الشعر أصلاً؟". غير أنّ التعمّق في الرؤية الّتي تحضر في نصوصه البسيطة والمكثّفة كفيلٌ وحده بإيصالنا إلى نتيجة قد تحتاج فضاءً أرحب من هذا لبيان خطورتها: هذا الشّاعر يحاول إرجاع الأشياء إلى العالم، بعد أن افتَكّتِ اللغةُ الأشياءَ من العالم!

أسئلة تتحوّل معها الكتابة الشعريّة إلى رمية نرد

ولم تكن هذه المحاولة لتكون ممكنةً خارج ما تقترحه من عمليّات نسف لغويّ قد تصل في بعض الأحيان إلى قلب العلاقة بين الشّعر والعالم. ويظهر ذلك من خلال ما يمكن أن يسمّى بـ"الميتا – شعريّ" (مصطلح قد يزعج وليد الشيخ كثيراً)، أو لنقلْ تلك المواضع الّتي يتكلّم فيها الشعر عن نفسه، على نحوٍ تكون فيه العملية الشعريّة استضافةً للّغة في العالم، لا استضافةً للعالم في اللّغة. فقصائد وليد الشّيخ "محفوفة بالفشل/ تشبه تقريراً عن يوم عمل/ في منظمّة غير حكوميّة" (ص63). كما أنّها تعوّل كثيراً على هذا المملّ والمعتاد لتعيد مساءلة العالم ومساءلة الشعر في آن واحد.

وبينما يواصل الشاعر طرح أسئلته، يترك وصيّته على هامش هذا العالم: "لا تفكّر كثيراً/ بالأطروحات الّتي كُتبت حول/ الكتلة/ والبياض/ ولا تقرأ كتاب سوزان برنار/ اترك الأسماء التي اعتادت/ أن تشرح على مدرّجات الجامعة/ هزيمة البنيوية/ لا تعُدْ إلى خرائب مجلّة "شعر"/ اترك الأمر/ للجسارة الّتي حرّرت الكلام/ من القواميس الثقيلة/ اكتب فقط" (ص42).

لقد نجح وليد الشيخ في هذا الكتاب، مثله مثل كوكبة من شعراء جيله ومَن لحقهم، في طرح أسئلة جديدة على الشعريّة العربيّة. أسئلة قد تبدو مشاكسة في نظر بعض النّاس، وقد تبدو "ثوريّة جدّاً" في نظر الآخرين، ولكنّها جديرة بأن تُطرح وأن تُناقَش داخل أفق شعريّ مغاير لما أرادت السلطة والمؤسّسة البلاغيّة الرسميّة تكريسه لوقتٍ طويل. أسئلة تتحوّل معها الكتابة الشعريّة إلى رمية نرد. 


* شاعر ومترجم من تونس

نصوص
التحديثات الحية

دلالات

المساهمون