نانسي كريكوريان... حكاية الجدّة الأرمنية

نانسي كريكوريان... حكاية الجدّة الأرمنية

06 يونيو 2020
(نانسي كريكوريان)
+ الخط -

تقصُّ الشاعرة والروائية الأرمنية الأميركية، نانسي كريكوريان (1960)، في روايتها "زابيل" الصادرة ترجمتها عن "دار فواصل" (2020) حكايةَ جدّتها الأرمنية؛ بدءاً من تركيا العثمانية إلى رأس العين في سورية ثمّ إلى أميركا. تروي "زابيل" التي ترجمها عن الإنكليزية رأفت نيربي حكاية ناجية من المجازر التي تعرّض لها الأرمن في مطالع القرن الماضي، وبذلك فهي حكايةُ عن الخوف والرغبة في النسيان، إلّا أنّ الذاكرة تُعاند، إذ إنّ نجاة زابيل تعتَبرُ إلهاماً لشعبها، وآلامُها من جرّاء القتل والترحيل هي آلامٌ لا تملك أن تنساها.

يفقد الناجون من المجازر الجماعية فرصتهم في الحياة العادية، الأمر الذي تُظهره الكاتبة في روايتها. إذ تبدو حريصةً على تصوير حياة رتيبة لبطلتها، لتُظهِرَ، باستخدام الرتابة، العطب الكبير الذي بدأت بها زابيل حياتها عبر تفاصيل صغيرة. ما إن تصل زابيل إلى أميركا، حتى تلتقي بزوجها، تشكو من التعامل مع والدته، تعرفُ الحبّ الصامت لزميلها في العمل. تخسره وتتابع حياتها، تُنجب الأولاد، تُمسك بأيديهم حتى يكبروا ويغادروا إلى حيواتهم، تشكو من اختلاف أبنائها عنها، تبحثُ عن صديقات، وتسعَد بلقاء آرسينيه، صديقتها منذ أيام الترحيل. تصبح زابيل جدّةً، ومن ثمّ تمضي إلى موتها.

إذاً، تستعرضُ كريكوريان حياةً عادية لسيّدة أميركية. لكنها تواري، ببراعة، وراء العيش الرتيب، آثاراً حملتها بطلتها من الميتم والمنزل الذي خدمت بهِ في تركيا، ومن الصحراء السورية التي تنطبق لديها على دلالات النهب والجوع والفقد. لا تنجو زابيل، عبر حياتها العادية من ذاكرتها، على الرغم من إصرارها على تجنّب تلك الذاكرة، فالذكريات تعود وتسيطر عليها عندما تبلغ الشيخوخة. وكانت قد أعادت مهاراتها في الطبخ والحياكة إلى تلك الحياة البعيدة، كما لو أنّها حاولت التعافي من الماضي عبر التصالح معه، قبل أن تُقرّر تحييده عن المستقبل، وليكون النصُّ برمتهِ، رهاناً على استحالة وعبثية النسيان.

تقطع زابيل عهداً مع صديقتها آرسينيه على ألّا تتحدثا عن الماضي، حتى تصيرا جدّتَين بلا أسنان، وتمثّل آراء آرسينيه وجهة نظر مختلفة، تتضّح أيما وضوح عندما تحضران فيلماً في السينما، إذ تطلب آرسينيه من صديقتها أن تُقدِّرَ الحياة، أن تعيشها، وأن تسعى لرؤية الجديد فيها، إلّا أنّ الناجية من المجزرة تبقى حبيسة خوف غابر، الأمر الذي ينكشف رهاباً من ذهاب الأبناء إلى عالمهم، إلى جانب تنامي "خوف"، تعرفه جلّ "الأقليات"، إزاء الزواج من خارج المجموع أو الاندماج في المجتمع الجديد.

وفي مكان آخر نقرأ حواراً بين الصديقتين:

"إنني أعاني من المتاعب في الليل مجدّداً"، قالت زابيل.

"عسر هضم؟" سألت آرسينيه.

"الصحراء"، قالت زابيل.

عرفت آرسينيه، التي كانت مع زابيل هناك، ما تعنيه تلك الكلمة. تفحصت آرسينيه وجه زابيل لتعرف ما إذا كانت ستمزح أو تحتجّ. كانت الدموع تنزلق على خدّي زابيل، فتنهدت آرسينيه وأخذت يد صديقتها".

عبر تركيب عددٍ من الهواجس والكوابيس التي أحكمت الخناق على حياة زابيل، على خياراتها وعلى صداقاتها؛ يعيد القارئ التساؤل حيال الحياة التي أرادت لها الكاتبة أن تكون حياة عادية، لتنكشف للقارئ، على نمط عيشٍ محكومٍ برهاب العنصرية والتمييز والموت الذي يقف وراء الأبواب وخلف الأسوار، موتٌ إن لم يأتِ بهِ الجنود العثمانيون، أتى بهِ الجوع في الصحراء السورية، حيث عاشت زابيل مع مجموعة من الأطفال على ما يُرمى لهم من بيوت رأس العين، أو ما يتناهبونه من أجساد حيوانات نافقة.

تواجه زابيل اعتقادها بقدرتها على الهروب من الماضي، عندما تختبر مع أطفالها خياراتٍ تشي بأنّهم معافون من المجزرة. إذ تقول شاكيةً رفضهم اللغة الأرمنية "سَيهلَكُ الأَرمَن"، فقد هُجّروا أولاً، ثمّ تخلّى أولادهم في العالم الجديد عن لغتهم القديمة وانتماءات آبائهم.

في مشهد البداية، الذي بانتهاء الرواية، نعرفُ أنّه مشهد النهاية أيضاً، إذ تُرتّب الكاتبة حكاية زابيل على نحوٍ بدا أنّها تفكّك عالمها، وعبر تفكيك عالم العجوز التي أصابتها الشيخوخة، نَفهمُ علاقاتها الضعيفة مع أبنائها، وتَداخل سيرة الأحفاد - لا الأبناء - مع الجدّة. لا يبدو الجيل الثاني معنيّاً بما أصاب آباءهم، فافترقوا عنهم في خيارات لم تُعجب الآباء. لكن الجيل الثالث الذي نشأ في حياة مستقرّة لآباء مشغولين بأعمالهم، ظهرت لديه تساؤلات نحو الماضي.

لتتضح رؤية الكاتبة عبر ما تتركه الجدة في حياة الأحفاد - بدءاً من الحكايات إلى الصفات التي تورثهم إياها - بأنّ قصة زابيل سوف تبقى عبر الأجيال ترتيلةً عذبة عن الألم ورجاء الخلاص. كما لو أنّ الدماء التي جفّت في الصحراء السورية والأَنفس التي أهدرت في الأنهار أثناء التهجير، ما تزال تَصرخُ، تنادي بالاعتراف والعدالة. فالضحايا لا يموتون، إنّهم يورثون سيرهم.

تمضي زابيل حياتها وهي تبحث عن سبيل إلى التصالح مع ما شكّل وعيها بالفقد، نجدها أحياناً غارقة في النوستالجيا وأحياناً تأنف كلّ قديم. ومن بين التقلبات النفسية والهوياتيّة التي تشهدها؛ تُشرق قصّتها مع موسى، الشابّ في معمل الأزرار، والذي أحبّته قبل أن تُنجب أوّلَ أبنائها وتسمّيه تيمناً بهِ، موسى، تُشرق قصّتها معه على عشرات السنوات القاتمة. على الرغم من أنّه لم يكن جزءاً من حياتها اليومية.

بإشارتها البسيطة تلك، توحي زابيل بإدراكها زيف حياتها العادية، فهي تتعلّق في النهاية، بما هو خاص، سواء موت أهلها أو حبّها الكبير الصامت. إذ نلمح في ذاكرتها، مشهد موسى ينتظرها في الحديقة ويعطيها الكشتبان، والذي كان بمثابة حجر الحظ، عوضاً عن الحب الذي فقدتهُ بوفاة والديها في المذابح. في ذلك الزمن البعيد عُطبت حياة زابيل، العطب الذي أمضت حياتها عبثاً تحاول إصلاحه.

المساهمون