"فندق بيروت" لـ نهاد إسلامي: شاهدٌ على تلّ الزعتر

"فندق بيروت" لـ نهاد إسلامي: شاهدٌ على تلّ الزعتر

04 مارس 2020
(نهاد إسلامي، العربي الجديد)
+ الخط -

نهاد إسلامي (1943) اسم كوسوفي معروف يمثّل الجيل المخضرم ما بين يوغسلافيا التيتوية في عزّها وما بين ما آلت إليه الأمور في الدول التي انبثقت عنها. درس الحقوق في "جامعة زغرب"، وبدأ العمل في الصحيفة الكوسوفية الأولى "ريلنديا" عام 1965، التي أوفدته مراسلاً لها إلى بيروت في 1974 ليغطّي أحداث المنطقة العربية، حيث تجوّل فيه من لبنان إلى الجزائر والتقى فيه مع رؤساء وقادة ومعارضين.

اشتهر بشكل خاص بتغطية تطوّرات الحرب الأهلية في لبنان، وكان شاهد عيان على مجزرة تل الزعتر. في 1978- 1981 أصبح وزيراً للإعلام في الحكومة الكوسوفية، ثم عاد رئيساً لقسم السياسة الخارجية في جريدة "ريلنديا". بعد استقلال كوسوفو أصبح رئيساً لـ "مجلس الإعلام"، وهو مؤسسة غير حكومية، ونشر مؤخراً كتابين يشتملان على مختارات من كتاباته ولقاءاته مع شخصيات معروفة، الأول "فندق بيروت"، والثاني "عنوان في بوخارست".

في هذا الكتاب، لدينا شهادته عمّا حدث في تل الزعتر وهي مع غيرها من المقالات التي نشرها في حينها، ألهمت شعراء ألبانيين معروفين حوّلوا تل الزعتر إلى رمز للصمود الفلسطيني والتضامن مع الشعب الفلسطيني.


"كأس من الماء تساوي كأساً من الدم"، كان هذا شعار مخيم تل الزعتر في بيروت الذي كان يسكنه ستّون ألف فلسطيني ولبناني وسوري وجدوا ملجأ لهم في هذا المخيم، الذي كان يرحّب بكلّ محتاج وباحث عن الحرية، حين قامت قوات الكتائب بإغلاق الأنابيب التي توصل المياه إلى المخيم في الصيف الفلسطيني الأسود عام 1976.

وكانت قوات الكتائب لبيار الجميّل ومليشيات كميل شمعون و"حراس الأرز" بدؤوا منذ كانون الثاني/ يناير 1976 ببناء الاستحكامات حول مخيم تل الزعتر، الذي كانت قد بنته الأمم المتحدة عام 1949 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من بيوتهم في فلسطين، بعد هزيمة الجيوش العربية في ذلك العام.

وفيما بعد أقيمت العديد من المخيمات الأخرى للفلسطينيين بدعم من الأمم المتحدة.في ما بعد حين كانت الطائرات الإسرائيلية تخترق المجال الجوي اللبناني لقصف أهداف لـ"منظمة التحرير الفلسطينية"، ان مخيم تل الزعتر من بينها. كان بناء هذا المخيم مزعجاً للكتائب منذ البداية، ولكن قوات الكتائب أصبحت الآن تشنّ الهجمات عليه ويقوم الفدائيون الفلسطينيون بالردّ عليهم.

زرتُ هذا المخيم عدّة مرات لأكتب عنه، وعن كبار السن فيه الذين يحلمون بموطنهم في فلسطين، وعن أولادهم وأحفادهم الذين ولدوا لاجئين وبقوا كذلك دونما اعتبار ودون جنسية ودون ترخيص للعمل، ويعيشون على إعاشة الأونروا. هناك أصبح لي أصدقاء، ومنهم بعض الصحافيين الفلسطينيين الشباب.

تقول المعطيات الإحصائية إنه في هذا المخيم عاش حوالي ستين ألف فلسطيني، ولبناني وكردي وسوري (من العمّال الموسميين)، وكلّ من تُغلق أمامه أحياء بيروت، لأن تل الزعتر أصبح ملجأ للفقراء حيث يجد كلّ واحد الخبز والملح والصدر الرحب بغضّ النظر عن جنسيته وعن المكان الذي جاء منه. وقد كتبتُ عن هذا عدّة مقالات.

يقع تل الزعتر في الجهة الشرقية من بيروت على تلّ لم يكن يجذب أحداً للسكن عليه. وكانت "المفوضية العليا للاجئين UNHCR" قد اشترت عشرات الهكتارات من الأراضي وقدّمت بعض المساعدات لبناء البيوت والمدارس والدكاكين من الطين وألواح الزنك إلخ. ولكن الفلسطينيين قاموا في السنوات الأخيرة ببناء ملاجئ تحت الأرض لحماية السكان من القصف الجوي المتتابع.

وكانت القوات اليمينية قد استخدمت البلدوزرات لكي تسوّي مخيم الكرنتينا بالأرض، بينما قامت في 22 حزيران/ يونيو (1976)، أيّ بالضبط بعد 22 يوما من بداية الحصار السوري لبيروت، بالقصف المتواصل لتلّ الزعتر. وخلال 52 يوماً من الحصار الكامل أُلقي على المخيم 55 ألف قنبلة. بعد ذلك قامت هذه القوات في 22 حزيران/ يونيو بطرد معظم السكان من المخيم الفلسطيني في جزّين. كان معظم الفلسطينيين من المسيحيين، وكان الكتائبيون يسخرون بالقول "لينقذهم عرفاتهم".

كان الخبز والماء مقدّسين بالفعل. كان بعض المقاتلين الفلسطينيين يسقطون قتلى وهم يحملون "بيدونات" الماء في أيديهم، في محاولاتهم لاختراق الحصار المزدوج الكتائبي- السوري. وخلال هذا الحصار الحديدي قُتل حوالي ثلاثة آلاف مدني من بينهم 300 رضيع ماتوا بسبب نقص حليب الأطفال.

نجح الفدائيون الفلسطينيون عدّة مرات في اختراق هذا الحصار لتل الزعتر لأجل جلب أكياس الدم للجرحى، لأن قوات الكتائب لم تكن تسمح بالدخول حتى لفرق الصليب الأحمر الدولي، على حين أنه حتى (اليوم) 18-7-1976 وصل عدد الجرحى إلى أربعة آلاف. معظم هؤلاء توفّوا بسبب جروحهم لأن القصف كان يطاول المستشفيات ويدمّر المعدّات.

طومع استعداد السكان لتقديم آخر قطرة من دمائهم لم يعد هذا بمفيد. فقد قتلت القوات الكتائبية أكثر من عشرين ممرضاً فلسطينياً. وقد صمّم عدد من الفدائيين الفلسطينيين قبل عدّة أيام على اختراق الحصار وإدخال جهاز لنقل الدم. ولكن من هؤلاء الفدائيين الـ 18، وصل اثنان فقط ألى المخيم، وأنقذا حياة المئات.

كنّا، نحن المراسلين خلال الحرب في لبنان، نشعر بالعجز عن فعل أي شيء بالنسبة إلى تل الزعتر المحاصر. كانت لا تصل سوى بعض المعلومات عن طريق إذاعة فلسطينية متواضعة في الداخل، ولكن لم يستطع أحد منا اختراق الحصار للوصول إلى الداخل، لأنه كانت هناك حوالي خمسة آلاف فوهة بندقية للكتائب موجهة نحو المخيم. كان الكثير من هذه الفوهات موجها نحو أنبوب المياه، حيث سقط حوله أكثر من مئة إنسان بريء وهم يحملون بأيديهم "البيدونات" لملئها بالماء. وحين كان فلسطيني ينجح في اختراق الحصار الكتائبي كان يواجهه الحصار السوري.

وفي النهاية، عُقد مؤتمر قمة عربية في الرياض في 11 تموز/ يوليو 1976، حيث تمّ الاتفاق على إرسال قوات الردع العربية لوضع حدّ للسوريين، والسماح للصليب الأحمر الدولي بالدخول إلى تل الزعتر، وإطلاق سراح المدنيين، وانسحاب قوات الكتائب. ومع تنفيذ كلّ هذه القرارات استغلّت قوات الكتائب الفوضى الحاصلة، وقامت باختراق مخيم تل الزعتر وقتْل عدّة مئات من المدنيين الفلسطينيين.


* ترجمة وتقديم: محمد م. الأرناؤوط. نشر النص لأول مرة في جريدة "ريلينديا" بتاريخ 18-7-19976 وأعيد نشره ضمن كتاب "فندق بيروت".




المساهمون