"عزف على ساق سنبلة": خطبة المؤلّف

"عزف على ساق سنبلة": خطبة المؤلّف

14 فبراير 2020
خالد البكاي/ المغرب
+ الخط -

أظنُّ أنَّ الإبداع عامّةً والكتابة خاصّةً أنواع، وذلك تبعاً لمعايير التصنيف، ولن أختار هنا سوى معياراً واحداً هو مصدر الإلهام؛ إذ يستلهم بعضُ المبدعين تجارب حياتهم الغنية والتي يرون أنها متميّزة وتستحق التدوين، كما فعل كتّاب أفذاذ؛ مثل همنغواي وحنّا مينا وغيرهم. أمّا البعض الآخر فيكتب استيحاءً من كتابات أُخرى قد تكون من الحياة، وقد تكون من الأفكار والخيال، كما فعل الجاحظ وابن المقفّع والموسوعيّون الفرنسيون.

أمّا صنف آخر، فيجمع الأقوال ويستعمل السمع عبر الشفاهية كما يفعل الرحّالة والإثنغرافيون. وقد يُسجّل بعضهم دقائق اليومي والأحداث والأخبار ليصف ما يموج به المجتمع من مآسٍ تستحقّ الانتباه عبرة ومتعة كما فعل الواقعيّون الكبار، فيكتور هيغو وبلزاك وزولا وفلوبير ونجيب محفوظ.

وقد يغوص البعض في الحنين أو ثنايا النفس الإنسانية كما فعل دوستويفسكي وشكسبير وبروست، أو يبقى في مستوى ذكر الطفولة كما فعل طه حسين وغوركي وعبد المجيد بن جلّون. وقد يذهب البعض إلى تلذّذ الغريب والسحري كما هو الأمر عند إدغار ألان بو. وقد يهتم بعضهم بالسياسة والأحداث الكبرى كما هو الأمر عند غارسيا ماركيز وتولستوي.

كما أنَّ من المبدعين الكبار من يستلهم إرادة القوّة كما هو واضح في شعر طرفة بن العبد والمتنبّي وفلسفة نيتشه... وقد ينجح البعض في ثيمة فريدة مثل الهجرة عند يحيى حقي والطيب صالح، أو الأرض عند عبد الرحمان الشرقاوي، أو يستغلّ ملفّات جنائية كما هو واقع الحال عند صاحب "يوميات نائب في الأرياف" أو صحاب "يحدث في مصر" الآن، وقد يعانق الكاتب آلام الجماهير كما خصّص كل من سارتر وستاينبيك حياتيهما الفنية لذلك، وقد تستحوذ قضية مصيرية على لباب الإنسان برمّته كما هو الأمر عند محمود درويش وكنفاني، وقد يركّز على تجربة حياة رجل فذّ كما هو الأمر عند صاحب "زوربا" أو ذهن فذ في "أوراق" العروي...

عيون الإلهام إذن أكثر من أن تُحصى، ومُقصّرٌ من يختصر الأدب في وجه من وجوهه.

ما الذي يلهمني؟ أظنّ الحنين وحده هي تلك النار المستعرة التي تُجبرني على الالتفات إلى حدائق سرية ما دامت متشبّثة بي رغم تقلُّب الزمن ورغم تقلّبي في المكان، ما دامت متشبّثةً فهي تستحق أن تُقال أو تُكتب، حدائق تهب السعد والحبور للناس كل الناس بدون مقابل. حدائق تفرض نفسها حتى في المقارنة العقلانية بين حياة الإنتاج للاستهلاك والإنتاج للتسويق.

بين حياة تربطك بالتراب والماء والنبات والشجر والسماء والريح والمطر، وتملأ ذهنك بصور الهناء، وبين حياة تملأ خياشيمك بالدخان قبل أن تملأ ذهنك باللهاث والعطش والجري وراء السراب والتسليع.

إنْ كان في ما تحاول هذه الوريقات نصيب ولو قليل من لفت الانتباه إلى قيمة الحياة غير التسويقية، إن كان هناك قليل مما تدّعيه، فهذا يبرّر بدون شك جدوى هذه الرسالة.

إن الفكرة المفاجئة وجدانياً هي التي تأتي من حيث لا ينتظرها المتلقّي لتخلق لنفسها حيّزاً من الطرافة حتى تتجاوز المألوف، إذ بدون حدٍّ أدنى من الطرافة والجدّة نسقط في المبتذل، ومن ثمَّ الممل، كأعداء حقيقيين للإبداع.

وكتمنيع للذات ضد السفسفة، يُستحسَن أن تُستقى الأفكار مما وقع، وأن تُقال بما لم يقع، إحسان الإصغاء والرؤية والكتابة بالذهن وحدها يمكن أن تخلق نصّاً وجدانياً كفيلاً بأن يفتح الأقواس على الممكن والآتي.

وهل يمكن تصور الأدب دون حد أدنى من الوجدان والشجن، وجدان وشجن يستمدّان المشروعية من غربة الوجود ومغامرة الاختيار أصلاً، ثم في العلاقات الإنسانية وما يترتّب عنها من خيبات وآلام. ومن ثمَّ لا بد للتخييل في رأيي أن يمتح من أمور كبرى ثلاثة فيُركّب بعضها ويترك البعض أو يجمعها كليةً.

الأولى هي الحسية البسيطة المنبهرة من اصطفاف الأشياء في الوجود بالتشابه أو التجاور أو التتابع أو التنافر وغير ذلك من أوجه العلاقات التي يُحسن الشاعر والمبدع نسجها بالسليقة عامة، ولا يجب النظر إلى هذا الصنف بأي ازدراء، إذ الحسية التي هي المبتدأ يمكن أن تكون هي الخبر الذي يجتهد الفنّ المعياري لبلوغه، ولنا أمثلة عظيمة في الرسم المعاصر.

الصنف الثاني هو التخييل، والذي يُعتبر العمود الفقري لاجتهاد الإبداع نحو نسيان العقلانية الفجّة وربط الأسباب بالمسبّبات لينساب كثنية للوجود، ليس كصورة تمسخ مهما كانت جيّدة، بل كإبداع ثان للوجود أو كخلق آخر له حتى يرى طرياً طراوة ميلاد الأشياء. وعلاقة التخييل بالحس وطيدة عبر الاتكاء والتجاوز والعودة والمزج.

الصنف الثالث يتجلّى في هندسة عقلية للمستويَين؛ حيث يحضر الحس وتحضر المخيّلة ويلعب العقل لعبة الإخراج عن بعد.

صحيح أن للدربة والتراكم يد ما في تبلور وجودة الأصناف، وصحيح أن للجامعة والشيوخ ما يقولونه في ضبط وتلقين المناهج والتقنيات، غير أن الدربة الذاتية في الأدب كما في السياسة هي الأم التي جعلت الفارابي يقبل أهل الرئاسة المدنية والحذق في كل فن في صنف الخاصة.


* كاتب من المغرب، والنص مقدّمته لروايته "عزف على ساق سنبلة" التي تصدر هذه الأيام عن "منشورات فكر"

المساهمون