"الطَّبخ في العَصر الرقمي": الطعام والكلام وما بينهما

"فنُّ الطَّبخ في العَصر الرقمي": الطعام والكلام وما بينهما

28 يناير 2020
(مائدة من فيينا لـ جان ديفيدز دي هيم، 1606-1684)
+ الخط -

لا يحضر الخطابُ عن الأكل وفنون الطبخ في الفضاء التقليدي فحسب، بل باتَ، في أيامنا، يكتسح الشبكة الرقمية التي تعمرُها صورُ المطاعم وكتبُ الوجبات وبرامج التلفزيون واللقطات الإشهارية وحتى صالونات الطبخ ومسابقاتُه، مما يجعل منه خطاباً شديد الحضور في المشهد الثقافي المحيط بالوعي الحديث. وقد تعزّز هذا الحضور في المواقع الإلكترونية والمدوّنات ومنتديات الحوار الاجتماعي بسبب الشبكة التي جعلت من هذا الخطاب يتوجّه إلى جمهور واسعٍ، متنوّعِ الحساسيات، يتألّف من المستهلكين العاديين، ومن الهاوين الكَلِفينَ بهذا الضرب من الإنتاج، وفيه أيضاً دارسون باحثون يعملون على تفكيك آلياته. وتتراوح غايات الكلام عن الطعام بين الإغراء بالشراء والاستهلاك وبين التوجيه والإعلام.

وقد تصدّى كتاب: "فنُّ الطَّبخ في العَصر الرقمي: نظراتٌ ألسنيّة واقتصاديّة" (الذي صدر مؤخراً عن "دار ستوفنبارغ" في ألمانيا) لهذه الأجناس من الخطابات والحَوامل لا سيما الرقمية منها بغرض تَحليل آلياتها وأبنيتها الداخليّة التي يُعبَّر بواسطتها عن تحوّلات مجتمعات أوروبا الحديثة، ويُتَرجَم بها عمّا تشهده من تغيّراتٍ في علاقة الإنسان بما يقتاته ويَشرَبه على مرّ الأيّام.

وقد تضافر على إصدار هذا الكتاب جامعيّون وأخصائيون في ميدان الطِّباخة من أجل اقتراح مقاربةٍ متقاطعةٍ متكاملة، ألسنية ودلالية واقتصاديّة، تحلّل الخطابات المتعلّقة بالغذاء في دول أوروبا. وقد خُصّصت المقالاتُ السبع عشرة، والتي توزَّعَت على أربعة فصول، إلى معالجة طرق تقديم "فنون الأكل والطبخ" عبر وسائل التواصل وكيفية تأثيرها في تَمثّل المعطى الغذائي ضمن الحياة اليومية. هذا، وقد أشرف على هذا العمل الجماعي ثلاثةٌ من أساتذة الألسنية في "جامعة لوران" بفرنسا وهم جوزاف كاديوو (الإيطالية)، وموريس كوفر (الألمانية)، وإيفون كرومنس (الإنكليزية).

يستعرض هذا المؤلَّفُ التطوّراتِ والوقائع التي حَصَلت في الخطاب عن الطعام، بعد طغيان الشبكة الرقمية واجتياحها لمناحي المعرفة اليوم. ويَدرس الباب الأول منه مقولة الاغتذاء بين اللغة والكلام، أي: بين مستوى الألفاظ الدالة على الأكل في لسانٍ ما ومقارنتها بالاستخدامات الذاتية لها، ضمن الخطابات المنجزة فردياً. وخُصّص الباب الثاني لما سمّاه المشرفون: "فنّ الطبخ التفارقي" لتحليل نماذج من تسمية الأطباق والوَجبات وإشكالات ترجمتها من لغة إلى أخرى. وأما ثالثُ الأبواب فتطرَّقَ إلى العلاقات المنعقّدة بين هذا الفن وبين التواصل الاجتماعي حين يُصبح الطعام موضوعاً للكلام بين باثٍّ ومتلق، عَبر الإشهار مثلاً أو نصائح الحِميَة أو نصوص الإعلان. وخُتم الكتاب بفصلٍ عن نظرة أهل المهنة، مثل كبار الطبّاخين (الشيف) والفُندقييّن إلى عَملهم وما يصوغونه عنه من صنوف الكلام.

مثل هذا العمل الألسني لم يُدشّن بعدُ، حسب عِلمنا، في الأبحاث الألسنية العربية. ولذلك، نكتفي هنا باقتراح مسلك واحدٍ على أمل مزيد تعميقه في دراساتٍ لاحقة وهو ملاحظة خلْط اللهجات العربية بين حقليْن مُعجمِيَيْن متباعديْن في الظاهر، ولكنها أوجدت بينها صلات مجازية دقيقة. وهما حقلا التغذية والطّبائع البشرية. فالاستعمالات الدارجة تلتجئ إلى أسماء وصفاتٍ من المجال الغذائي، لتُطبّقها عبر الاستعارة على الإنسان وطبائعه.

فمن ذلك أنَّ اللهجة التونسية تُطلق كلمة "بَنين"، وتعني: "لذيذ"، على الشخص اللطيف ذي المزاج الطيب. وتطلق على عكسه صفة "ماسط"، وهي في الأصل موضوعة للطعام الذي لا ملحَ فيه ولا لذة، ثم انصَرَفت إلى الشخص ثقيلِ الظل، الذي لا يُؤنس بحضوره. وأما إذا أريد وصف شخصٍ نَشطٍ فعّال، فَيُلجَأ آنذاكَ إلى استعارة نباتية، وهي "مْفَلْفَل" أي: إنه يشبه الفُلفلَ في حيويته وما يسببه من النشاط وقد يطلق: عليه "حارّ"، في تشبيه بليغ، يستعيد الحيوية التي تنتج عن تناول المواد الحارّة.

ومن الأفعال، صاغت اللهجة التونسية "غَرْمَش"، وهو فعلٌ رُباعي، أصله "غَرَش" وأضيفت إليه الميم في مسار مألوف لتأليف الكلمات ونحتها، كما بينه المعجمي التونسي إبراهيم بن مراد. ويعني "مضغ مادة يابسة"، مثل: الفواكه الجافة. ثم صارت تطلق على الشخص اللطيف الذي تُقبل نكاتُه تلقائياً. ويُقابلها في اللهجات الشامية: "مهضوم"، أي إنّه لطيف وتمرُّ تدخّلاته دون صعوبة. وحين يوصف تفكير شخص ما بأنه "شكشوكة"، في استحضار لهذا الطبق الذي تمزج فيه الخضروات، فللدلالة على اضطراب أفكاره وتداخلها إلى درجة لا تتميز فيه أية فكرة.

وبحسب مقولات الأنثروبولوجيا، لدى كلود ليفي-ستروس فإنَّ ثنائية النيء والناضج تُشكل إحدى الثنائيات التي تحكم الشِفرات الغذائية الخاصة بالأكل في كلّ المجتمعات البشرية. ولكنها هنا تؤدّي وظيفةً أخرى لدلالتها على الشخص الثقيل الظلّ صاحب المواقف الممجوجة التي لم تنضج بالقدر الكافي. وتقال عنه، بنفس الآلية، إنه "ناقص غَلْو"، بمعنى أنَّ مَزحَه لم ينضج ولم يَغتَلِ كفايةً، فيَجعلها لا تتقبل بسهولة وعكسه "طايب" أيّ: طيّب من أصله الفصيح: طاب الغذاء واستَوى. ويمكن أن تجرى تحليلاتٌ، أكثر دقةً وعمقاً، على كلمات من قبيل: فاوح، يعصد، عصيدةٌ، يروّن، روينة، ناقص ملح، خميرة، مَطَمطم...

ولا شك في أن مثل هذه الصور شائعة في اللهجات العربية الأخرى. ففي بلاد الشام، يوصف الشخص بأنه "لذيذٌ" للدلالة على حلاوة الخلق، ورديفه نعت: "حُلو" كناية عن الجمال الظاهر. ونجدُ أيضاً كلمة "زنخ" وتطلق على كراهة الرائحة وتدلّ على ثقل ظلّ الشخص. ولا تخفى على أحد الصلةُ بين "الملح" الذي اشتُقَّ منه وصفُ "مليح"، والذي تحوَّل عبر قلب صوتي إلى "منيح" بمعنى: جيّد. وقد يوصف شديد الدهاء "بمحورق"، وكثير الفضول بـ"المفلفل". وقد تتطوّر هذه الاستخدامات إلى عبارات وأمثلة شعبية مثل: "عَاجِنك وخَابزك" للإشارة إلى المعرفة الواسعة بالشخص، و"الدنيا طاحنته طَحن" للدلالة على الأهوال التي واجهها الإنسان. و"شغلة شوربة " إشارةً إلى الفوضى، و"عم يتقلّى" إلى حرقة الانتظار. و"محمِّض" إلى الشخص المتكبر الذي لا يعجبه شيءٌ...والأمثلة لا تكاد تحصى.

والملاحظ أن كلّ هذه التحوّلات المجازية تمرّ من طريق الاستعارة باعتبارها الآلية الأقدر على نقل المعنى من السجلّ الغذائي إلى السجل البشري، ومن وصف الطعام إلى رسم خصائص الإنسان ومن الارتسام الذاتي عن المأكولات إلى شيم الإنسان بين الكائنات، وهو ما يؤكد حضور الاستعارة في الحياة اليومية واشتغالها بشكل حيٍّ، إلا أنَّ بعض تلك الاستعارات صار مُمَعجماً وفَقَدَ صفته المجازية وتحوّل إلى اسمٍ أصلي.

وما يستشف من هذا الأمثلة السريعة أنّ الاستخدام العامي يَجنح إلى توظيف الحمولات السلبية التي يوحي بها الطعام أكثر من الحمولات الإيجابية. وأن توظيف ذلك الحقل يهدف إلى الشتيمة والاحتقار وإلى التشبيه بعيب الطعام، في إحالة إلى لا شعورٍ جمعي، يماثل في الأكل السمة الحيوانية التي تتصل بالملذات العابرة والنهم والالتهام، لا بفنون الطبخ وشِفراته الثقافية الإيجابية.

وسواء تعلّق الأمر بالشِفرات الثقافية الغربية أو العربية، يبدو أنَّ جدَلَ الطعام والكلام يتجاوز مجرّد التسمية الاعتباطية والتشبيهات العابرة، بل يوفّر نسيجَ علاقاتٍ معقدة يودع فيه الإنسان عواطفه وهمومه، ويعبّر بها عن لاوعيه الفردي والجمعيّ وعن نظرته لذاته وللآخَر، وهذا الحقل المعرفي من وَاعد الحقول التي تَستأهل منّا فَضلَ نظرٍ واستكشاف.

المساهمون